بقلم : مصطفى الفقي
أتذكر الأستاذ عوض حنا، مدرس الرياضيات بمدرسة دمنهور الإعدادية فى خمسينيات القرن الماضى، حيث تعلمنا منه حل تمارين الهندسة بتسلسل فيه عمليات الاحتواء والاستبعاد، وكان المدرس يبذل جهدًا خارقًا فى شرح الحقائق وتعريف الأطفال بما يمكن أن يكون رصيدًا عقليًا يبقى دائمًا، كما تعلمت فى المدرسة الثانوية من أستاذ الفيزياء سيد البجاوى، الذى كان يدرس لنا مادة التخصص، فقد كنت من طلاب تخصص الفيزياء فى المرحلة الثانوية.
وتعلمنا من الأستاذ البجاوى الدأب والمثابرة والصبر واحترام العلم وحب المعرفة، وفى الجامعة امتد الأفق واتسعت مساحة الحوار وبرزت أمامى أسماء الدكاترة حامد ربيع وبطرس غالى ورفعت المحجوب وعبدالملك عودة، لكى يصبحوا نماذج مبهرة أمامنا وقدوة متميزة لا جدال حولها، ومازلت أتذكر صورة العميد الدكتور محمد زكى شافعى وهو يشرح كتابه عن النقود والبنوك على نحو غير مألوف، وبطريقة تمزج بين الجدية الصارمة والفكاهة الخفيفة كأنما يلقننا الرجل أنماط الحياة بحلوها ومُرها، أما الدكتور حامد ربيع فحدث ولا حرج.
فهو أستاذ تذوق الحضارات فى مضمونها الثقافى ورمزها الفكرى وتأثيرها فى الحياة والأحياء، ويبدو بطرس غالى أمامنا سفيرًا للعالم فى مصر، فقد استطاع ذلك الإنسان الذكى أن يبقى فى دولة عبدالناصر مواطنًا فاعلاً رغم أنهما لا ينتميان إلى مدرسة فكرية واحدة ولا تاريخ اجتماعى مشترك، كما يطل علينا رفعت المحجوب بأناقته اللفظية وتألقه الفكرى وحبه للومضات الفلسفية المتنوعة فى توصيف علم الاقتصاد والتعريف به حتى ترك فينا أثرًا مازلنا نشعر به حتى الآن، أما عبدالملك عودة فقد كان نموذجًا لأستاذ الجامعة الملتزم الذى يجسد الشخصية المصرية فى تلقائية كاملة وعاطفة صادقة، ومازلت أتذكر أثناء دراستى فى السنة الرابعة بالكلية وقبيل التخرج بأسابيع قليلة، حيث تراجع حضور الطلاب إلى الكلية للتركيز على الاستذكار فى المنازل استعدادًا للامتحانات القريبة.
وفى محاضرة الدكتور إبراهيم درويش دق الباب علينا الدكتور عبدالملك عودة واستأذن زميله فى أن يأذن لى بالخروج من القاعة للتحدث معى، وكنت رئيسًا لاتحاد الطلاب، وشرح لى حينها الدكتور عودة فى تأثر شديد معاناته من المنع من السفر أحيانًا رغم أنه ملتزم بالفكر السياسى والاجتماعى للدولة ولكن تجرى محاسبته لأنه شقيق المرحوم عبدالقادر عودة الذى جرى إعدامه قبل ذلك بسنوات لأسباب سياسية، يومها طلب منى الدكتور عبدالملك توصيل الرسالة المعنونة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة.
من عبدالملك عودة، الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأخذت الرسالة واتصلت بزميلنا حاتم صادق، صهر الرئيس، الذى كان قد تخرج قبلنا بعامين، وأبلغته بما جرى وسلمته الرسالة التى أشرَّ عليها جمال عبدالناصر بعد ذلك بخط يده «يُرفع اسمه من القوائم، ولا يُوضع مرة أخرى إلا بمعرفتى شخصيًا»، لقد كانت أيامًا لا أنساها، تعلمت فى تلك السنوات الباكرة جوهر العمل السياسى والالتزام الوطنى.. رحم الله من رحلوا جزاء ما علمونا وما قدموا لنا.