بقلم - مصطفي الفقي
لا بد أن أعترف أن بى ضعفا شديدا تجاه أستاذ الأجيال من الدبلوماسيين المصريين أسامة الباز الذى ترك فينا أثرًا عميقًا، وقد عملت شخصيًا معه لما يقرب من أربعين عامًا، سواء فى معهد الدراسات الدبلوماسية أو ديوان وزارة الخارجية أو رئاسة الجمهورية، وتعلمت من تلك الشخصية الفذة ما أعتز به طوال حياتى، فقد كان الرجل زاهدًا متواضعًا لا يهوى المظاهر ولا يهتم بما يسعى إليه الآخرون، وقد استهوتنى المقارنة بينه فى عصر مبارك وبين أحمد حسنين باشا فى عهد الملك فاروق، مع الفارق بين أدبيات العصر الملكى ومفردات النظام الجمهورى، إلا أن هناك عناصر شبه وأوجه تلاق بين الشخصيتين الكبيرتين، فلقد كان أحمد حسنين صاحب قرار من وراء ستار ويكفى دوره فى 4 فبراير 1942 عندما أنقذ عرش فاروق ونصحه بقبول الإنذار البريطانى لأن البديل كان هو الإطاحة به، فكانت نصيحة أحمد حسنين باشا هى حبل الإنقاذ الذى حافظ لفاروق على عرشه، ولقد قالت الملكة نازلى فى سنوات «مراهقتها الثانية» بعد وفاة زوجها الملك فؤاد الذى كان يقمع حريتها بشكل مباشر،
قالت لابنها يوم أن دخل عليها أحد أبهاء القصر ليجدها وقد دعت إلى مقرأة دينية من أكثر من عشرين مقرئًا للقرآن على روح أحمد حسنين باشا بعد مصرعه فى حادث حين اصطدمت سيارته بلورى يتبع الجيش البريطانى فوق كوبرى قصر النيل بالقاهرة، وحينما أبدى فاروق استياءه مما تفعل والدته وهو يعلم أنها كانت زوجة لأحمد حسنين باشا بعقد عرفى بعد وفاة الملك فؤاد، ردت عليه وهو يلومها على ما تفعل (إن هذا الذى تتحدث عنه هو الذى حافظ على عرش أبيك وسمح باستمرارك فى مقعدك)، ومعلوم أن الملك بنفسه بعد حادث كوبرى قصر النيل قد سارع إلى مكتب حسنين باشا وبدأ يبحث فى الأدراج عن عقد الزواج العرفى بينه وبين الملكة السابقة نازلى، وقد أصدر عنه منذ سنوات الكاتب الصحفى محمد السيد صالح كتابًا بعنوان «أسطورة القصر والصحراء» شرفنى بإعداد مقدمته، ولم يكن أسامة الباز بالطبع من ذلك النموذج الصارخ مثل ذلك الجغرافى الرحالة والشخصية الهامة فى التاريخ الملكى المصرى، إلا أن الشبه الشديد بينهما هو الشراكة الفاعلة فى الحكم من وراء ستار ودون صخبٍ أو ضجيج، كما أن كليهما ابن عالم أزهرى ولابد أن أقرر هنا أن أبناء المشايخ الأزهريين قد احتلوا مواقع هامة فى تاريخ الحكم والدبلوماسية المصرية بدءًا من أحمد حسنين مرورًا بمرتضى المراغى وصولاً إلى أسامة الباز مع احتواءٍ لأسر عريقة مثل المشايخ عبدالعزيز عيسى وعبدالحليم محمود وبيت الظواهرى وعائلة عبدالرازق وغيرهم من أبناء الأئمة وعلماء الدين،
كما أن هناك وجه شبه آخر وهو أن حسنين والباز درس كل منهما فى الخارج، درس الأول فى بريطانيا أما الثانى فدرس فى الولايات المتحدة الأمريكية وعاد كل منهما بقدر من الاستنارة والاحتكاك بالعالم الخارجى جعل منهما شخصياتٍ رحبة قادرة على استيعاب كافة المواقف، بالإضافة إلى ملكات الرؤية الواضحة وإجادة اللغة الإنجليزية فضلاَ عن فهم طبيعة النظام السياسى المصرى فى مرحلتيه الملكية الجمهورية، ولقد شارك حسنين باشا فى اكتشاف واحات فى الصحراء الغربية، كما كان لأسامة الباز نشاط ثقافى خارج موقعه الرسمى طوال السنوات التى عرفته فيها، ولقد وصل حسنين باشا إلى منصب رفيع هو رئيس الديوان الملكى بينما توقفت أسهم أسامة الباز عند موقع مستشار رئيس الجمهورية للشؤون السياسية بعد أن كان وكيلاً أول لوزارة الخارجية ولكنه لم يخدم فى بعثاتنا بالخارج واكتفى بالبقاء إلى جانب الرئيسين السادات ومبارك، ومثلما كان للباز دور بارز فى إعداد منشورات الضباط الأحرار عام 1952 وهو طالب فى كلية الحقوق، فقد كان له نشاط بارز فى مباحثات كامب ديفيد ومازلت أحتفظ بنسخة من الأهرام على صفحتها الأولى جيمى كارتر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وأسامة الباز المفاوض فى وفد أنور السادات، وجدير بالذكر أن حسنين باشا كان هو من أوكل إليه الملك فؤاد تربية وتدريب ولى العهد فاروق خصوصًا فى فترة لندن كما كان أسامة الباز مهتمًا بتدريب جمال مبارك فى فترة معينة من حياته الأكاديمية والسياسية، إننى أكتب هذه السطور لأنى تذكرت أستاذى ومعلمى أسامة الباز، وتذكرت معه قرينه فى التاريخ المصرى الحديث أحمد حسنين باشا، رحم الله الرجلين لما قدماه لمصر فى العهدين من آراء وأفكار ومواقف