بقلم : مصطفي الفقي
لا أنسى ذلك الصباح المبكر من شهر سبتمبر عام ١٩٦١ حينما ذهبت إلى مبنى الإدارة الطبية بجامعة القاهرة لإجراء الكشف الطبى الروتينى على الطلاب المقبولين بكليات الجامعة فى ذلك العام، وكان الصباح باكرًا وقد ذهب الجميع بفعل الحماس للحياة الجامعية فى ساعة مبكرة قبل بدء دخول طوابير الطلاب إلى اللجنة الطبية لتوقيع أورنيك الصلاحية للخلو من الأمراض المعدية، وأمام مبنى الإدارة الطبية كان هناك حشدٌ من الطلاب المقبولين فى الكليات المختلفة.
ويومها تعرفت على زميل قال لى إنه من بورسعيد ومقبول فى كلية الاقتصاد لذلك العام، وعندما علم أننى سوف أكون زميله ابتهج، وقال لى إننا سنكون أول صديقين فى هذه الدفعة، وقد استمرت علاقتى به منذ ذلك التاريخ حتى رحيله عن عالمنا فى نهاية عام ٢٠٢٤، وكان الود بيننا متصلًا، بل منتظمًا رغم أننا لا يرى أحدنا الآخر إلا فى فترة قصيرة كنت أنا فيها نائبًا فى مجلس الشورى، رئيسًا للجنة الشؤون الخارجية والعربية، وكان ماهر سرحان هو أمين هذه اللجنة، وقد حدث ذلك لفترة قصيرة، إذ جرى حل ذلك المجلس بعد ثورة يناير ٢٠١١.
والذى يهمنى هنا هو أن أشير إلى أن الصداقة المتينة التى تبدأ فى سنٍ صغيرة، خصوصًا عند مطلع الشباب، تظل قوية التأثير مدى الحياة، ولقد تميز ماهر سرحان بأخلاقٍ ملائكية وأدب جم، ورغم أن زوج خالته كان هو الدكتور مصطفى كمال حلمى، رئيس مجلس الشورى، فإننى عرفت ذلك فقط من خلال قرابته بابن خالته، السفير اللامع، عمرو مصطفى كمال حلمى، الذى أنهى خدمته بـ«الخارجية» سفيرًا فى إيطاليا، ثم مساعدًا لوزير الخارجية، ولقد اكتشفت أيضًا بعد سنوات أن شقيق «ماهر» كان محافظ بورسعيد، وقضى إلى رحاب ربه فى حادث سيارة، أما شقيقه الآخر فقد كان قائد حراسة الرئيس الراحل أنور السادات إلى يوم استشهاده فى السادس من أكتوبر ١٩٨١.
ولم يكن ماهر سرحان يتحدث كثيرًا عن أقاربه والشبكة القوية من العلاقات التى تمثل بالنسبة له قرابة مباشرة لم أرَه يومًا يستغلها أو يشير إليها، ولم تمضِ مناسبة دينية من المولد النبوى إلى شهر رمضان إلى الأعياد الدينية والوطنية إلا ودق هاتفى بتحية من ذلك الصديق العزيز، حيث مرت صداقتنا عن بُعد لتجسد جوهر تلك العلاقة الوثيقة بين اثنين من الشباب، بدأت فى ربيع العمر ولم تنته فى خريفه.
ونموذج ماهر سرحان كان يبهرنى، خصوصًا فى الفترة التى عمل فيها تحت رئاستى فى لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشورى، فقد كان مثال الرقى والانضباط وحفظ المسافة بيننا رغم أننا صديقان منذ بدء الدراسة الجامعية، وهو يعلم جيدًا كم أحبه وأحترمه، ولكن تلك هى صفات نادرة فى ذلك الجيل لا نكاد نجد لها مثيلًا فى الأغلب الأعم من الصداقات المعاصرة، وفى عيد ميلادى الأخير فى نوفمبر ٢٠٢٤ جاءنى صوته مهنئًا ببشاشته المعتادة وشعوره الصادق.
وما هى إلا أيام قليلة حتى نعاه الناعى فى اتصالٍ من أحد الزملاء بمجلس الشيوخ الحالى من الموظفين الذين عملوا معنا من قبل ليخبرنى برحيل الصديق والرفيق، الذى كان لا ينسى الاتصال بى، حتى وهو فى لندن لزيارة أبنائه هناك أو فى محنة مرض ألَمَّ به أحيانًا، لقد كان نموذجًا فريدًا للإنسان كما يجب أن يكون، ولابد أن أتذكر هنا أن لدىَّ نماذج أخرى من الصداقات عن بُعد حافظ معظمها من زملاء الدراسة على التواصل الدائم والمستمر رغم أن سبل الحياة قد فرقت بيننا وظروف العمل قد خلقت مسافات تفصلنا.
ولكن تبقى الأخلاق الكريمة تاجًا على رؤوس أصحابها يظل متألقًا حتى الرحيل الأخير، ولعلى أسجل هنا أن أسعد لحظات العمر هى تلك التى يقضيها المرء مع أصدقائه دون مصالح متبادلة أو منافع منتظرة، ولكنها تأتى فقط نتيجة محبة سكنت القلوب ومودة استقرت مع الأرواح. رحم الله ماهر سرحان الذى استمرت صداقتى به فى تواصل حميم رغم أنها عن بُعد غالبًا على امتداد ستة عقود أو ما يزيد. طيّب الله ثراه وعطّر ذكراه