بقلم : مصطفي الفقي
تخرجت من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى يونيو ١٩٦٦ محملاً بآمالٍ كبيرة وأحلامٍ للحياة والمستقبل، وكنت وقتها منخرطًا فى العمل السياسى للشباب عضوًا باللجنة المركزية ومسؤولاً عن التثقيف فى العاصمة، كانت الآمال حينذاك عريضة والتطلعات كثيرة والمناخ العام يوحى بالأمل فى ظل أجواء الحلم العربى والمد القومى، وذات صباح بعد تخرجى بأيامٍ قليلة اتصل بى الدكتور حسين كامل بهاء الدين أمين الشباب فى الاتحاد الاشتراكى العربى ليبلغنى باختيارى لتمثيل الشباب المصرى لاحتفال الشبيبة الجزائرية بمؤتمرهم العام والمقترن بنقل رفات الأمير عبد القادر الجزائرى من سوريا إلى وطنه الجزائر. وأضاف الدكتور حسين بهاء الدين فى حديثه الهاتفى معى أن وزير الخارجية السيد محمود رياض سوف يمثل الدولة المصرية فى تلك الاحتفالات ويرافقه السيد حسن صبرى الخولى الممثل الشخصى للرئيس جمال عبد الناصر، وهكذا ركبت الطائرة لأول مرة فى حياتى تدفعنى شجاعة الجاهل لأننى اكتشفت بعد ذلك بسنواتٍ طويلة أننى لست صديقًا حميمًا للطيران، ومع ذلك قطعت عشرات الآلاف من الأميال بين دول الغرب والشرق والمنطقة العربية والقارة الإفريقية على امتداد حياتى الدبلوماسية والسياسية، وعندما وصلت العاصمة الجزائرية كان فى استقبالى السيد أحمد معراجى مسؤول الشبيبة الجزائرية ومقرر المؤتمر، ونزلت فى فندق اليتى بجوار شارع أزون إمبان إن لم تخنى الذاكرة، فأنا أتحدث الآن بعد مرور ما يقرب من ستين عامًا على تلك الرحلة، وأتذكر جيدًا أن الدكتور عبد الأحد جمال الدين الذى كان مدرسًا للقانون وعضوًا للجنة المركزية للشباب مسؤولاً عن التدريب قد أعطانى رقم تليفون لوزير جزائرى يدعى داوود بخروف، وقضيت فى الجزائر أسبوعًا ممتعًا، صافحت فيه الرئيس الجزائرى الراحل هوارى بومدين فى حفل العشاء الذى أقامه على شرف الوفود العربية المشاركة فى تلك المناسبة التاريخية بقصر الشعب، ويومها التقيت بعدد كبير من مسؤولى الدول وممثلى التيارات السياسية المختلفة خصوصًا من إفريقيا والعالم العربى، وكانت التجربة مثيرة بالنسبة لشابٍ لم يتجاوز العشرين من عمره إلا بعامين أو أقل، ينظر بانبهار لكل ما يرى ويلتهم المواقف والأحاديث والفعاليات، وأتذكر أننى صليت الجمعة فى مسجدٍ بحى القصبة كان قد جرى افتتاحه بعد تجديده عند زوال السيطرة الفرنسية وخروج جنود الاحتلال بعد نضال أسطورى مارسه الجزائريون من أجل الحرية والاستقلال.
ولقد تصادف أن كان لى عمٌ هو الشيخ «عبد الحافظ مصطفى الفقى» رحل عن عالمنا منذ سنواتٍ قليلة عن عمرٍ يناهز الخامسة والتسعين كان يقوم بالتدريس فى المركز الإسلامى بمدينة قسطنطينة فقررت زيارته فى يوم كان مقررًا للجولات الحرة أثناء الزيارة، وأخذت القطار لعدة أميال حتى وصلت لمدينة تبدو فى وقتها أكثر عروبة من غيرها، وقد سعدت بلقاء عشرات الجزائريين فى ذلك القطار الذين كانوا أشد حفاوة بالضيف المصرى القادم من بلد عبد الناصر، وقد سعد بى عمى كثيرًا وكان يتذكر ذلك اللقاء بعدما عاد إلى الوطن وأصبح شيخًا لمعهد دمنهور الدينى. وقد زاره الوزير الدكتور أسامة الأزهرى والمفتى السابق الدكتور شوقى علام فى منزله بمدينة دمنهور تكريمًا لاسمه وتقديرًا لدوره واعتزازًا بدعمه لعلوم الدين فى مصر وخارجها، إنها ذكريات غير منسية ولكنها فى صفحاتٍ مطوية من أحلى سنوات العمر حيث الحلم العربى والمد القومى، ويومها كنّا فى شرخ الشباب نتطلع للمستقبل الواعد والأمل الذى يلوح فى الأفق البعيد!.