بقلم : مصطفى الفقي
حاولت إسرائيل ومازالت بكل الأساليب وفى مختلف المناسبات منذ بداية أحداث غزة الدامية فى أكتوبر 2023 الزج بمصر لكى تكون طرفًا مباشرًا فى النزاع بدلاً من أن تكون وسيطًا مؤثرًا بين أطراف تؤدى جهودها إلى تسوية عاجلة من أجل وقف إطلاق النار، وقد حاولت القيادة المصرية والدبلوماسية الوطنية تصدير عشرات المبادرات فى هذا السياق ولكن نيتانياهو وحكومته لا تعرف إلا قتل الأطفال وقصف المبانى وترويع المدنيين على نحو غير مسبوق فى تاريخ النزاعات المسلحة والصراعات الدامية، ولأن الدولة المصرية استطاعت من قبل نزع الفتيل الملتهب بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلى فى عدوانه المستمر عليهم فلم تنظر إسرائيل أبدًا إليها كشريك فى السلام الذى جرى توقيعه فى اتفاقية دولية فى 26 مارس 1979، بل مضت إسرائيل فى تعاملها مع مصر على أنها خصم وليست شريكًا، وعلى أنها طرف وليست وسيطًا، وما أكثر المرات التى أدت فيها المبادرات الدبلوماسية التى تبنتها المخابرات العامة المصرية إلى إيقاف نزيف الدم فى غزة عبر السنوات الماضية حتى إن الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن قد أجرى اتصالاً هاتفيًا مع الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى يوجه له الشكر والتقدير على جهود الدولة المصرية فى احتواء أزمة ذلك الصراع الدامى بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلى، ولكن إسرائيل تملك ذاكرة سمكة لاتدرك بها المخاطر القادمة على المدى البعيد وتتصرف دائمًا بنظرة قصيرة تحاول بها انتزاع انتصارات وهمية بارتكاب جرائم عنصرية وتصرفات عدوانية، بينما مصر العريقة تملك على الجانب الآخر ذاكرة الفيل الذى يحتضن الأحداث ويقرأ التاريخ ويدرك حجم المخاطر القادمة على جميع الأطراف، خصوصًا ذلك الطرف الذى يرفض الاحتلال ويقاوم أساليبه الغاشمة فى قوة، ومع ذلك كله ظلت الوساطة المصرية على عهدها الواضح وأسلوبها الشريف فى سعيها لحماية الشعب الفلسطينى من ذلك العدوان الدامى، كما أسهمت مصر بالنصيب الأوفر فى إغاثة أبناء الشعب الفلسطينى، والكشف عن نيات إسرائيل التوسعية الاستيطانية ومخططات التهجير القسرى والطوعى لأبناء ذلك الشعب الصامد بتحويلهم جميعًا إلى لاجئين خارج حدود فلسطين التاريخية، ولقد قامت السياسة المصرية تجاه أحداث غزة على أعمدة ثلاثة، الأول حماية الشعب الفلسطينى من جبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية والدعم الأمريكى المطلق لها، أما الثانى فهو السعى إلى التفاوض بين الأطراف لخلق أجواء من التهدئة تسمح بالتفكير فى استعادة الزخم الضائع لمحاولات السلام بين الفلسطينيين والدولة العبرية، أما العمود الثالث فهو الحفاظ على وديعة السلام الكبرى بين مصر وإسرائيل التى تعد بحق عمود الخيمة لاستقرار الشرق الأوسط، والسعى نحو تسوية شاملة وعادلة ينال بها الشعب الفلسطينى حقه فى دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، إننى أقول ذلك الآن ونحن نلحظ جميعًا محاولات التحرش الإسرائيلى بالجيش المصرى الذى كان دائمًا جيشًا داعمًا للسلام داعيًا للاستقرار رافضًا للعدوان، ومصر حريصة من جانبها على مسيرة السلام الغائبة، واستدعاء كل الجهود الدولية والإقليمية لكى يبقى السلام المصرى الإسرائيلى معتمدًا على ركائزه التاريخية رغم كل محاولات العبث الإسرائيلى، سواء بمحور فلادلفيا (صلاح الدين)، أو مدينة رفح على الحدود بين البلدين، فضلاً عن الاتهامات التى لا سند لها من الجانب الإسرائيلى حتى إن وزير الدفاع الإسرائيلى الذى كان وزيرًا للخارجية من قبل يحاول بناء أمجاده الزائفة على حساب السلام مع مصر بتصريحات مستفزة لا أصل لها من الواقع الذى يراه الجميع على ساحة المعارك قرب الحدود المصرية التى تستنكر إسرائيل أن تقوم مصر بحمايتها حفاظًا على شعبها الضخم الذى يتجاوز عشرة ملايين بعد المائة، فضلاً عن إدراك مصر بالخبرة التاريخية والوعى المتراكم أن لإسرائيل أطماعًا فى أراض عربية أخرى مثلما فعلت مؤخرًا بعد سقوط النظام السورى ومحاولاتها زرع الفتنة بين الطوائف العربية فى إطار الشام الكبير وفوق ذلك كله مسعاها لتشويه الدور المصرى الفاعل فى التسوية، بل والإيقاع بينه وبين أدوار أخرى لشعوب عربية شقيقة.
إننى أنبه وأحذر من المخاطر التى تكمن وراء سلسلة التصريحات المستفزة تجاه الوسيط المصرى، والتعامل معه كطرف معادٍ قبل أى أمر آخر متناسين أن مصر التى كانت قائدة فى الحرب هى نفسها التى كانت رائدة فى السلام وأنها تسعى لتحقيق الأهداف، والحد من المجزرة الإسرائيلية فى غزة وأطماع الدولة العبرية التوسعية التى لا تنتهى وتصرفاتها العدوانية التى لا تتوقف، وسوف تبقى مصر شامخة يشير إليها كل من يسعى للسلم والأمن الدوليين فى منطقة الشرق الأوسط.