بقلم - مصطفي الفقي
إن الشعوب التي تحررت والأمم التي قاومت الاحتلال اعتمدت على الطريقين معاً، القتال والمفاوضات، وهي لم تجلس إلى مائدة التفاوض إلا عندما تأكدت أنها قامت بحل العقدة أو مركب النقص الناجم عن غياب التوازن الاستراتيجي بين الجانبين، وذلك ما حدث بالتأكيد بعد حرب 1973 عندما استعاد الجيش المصري ثقته بذاته وأدرك أن المواجهة العسكرية أنهت إلى حد كبير أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" وأعني به "جيش الدفاع الإسرائيلي"، واستطاع الضباط المصريون العظام وعلى رأسهم الفريق محمد فوزي دفع الجيش المصري إلى ساحة المعركة وهو مهيأ تماماً لمواجهة الجيش الذي يحتل سيناء، متوهماً أن مصر أصبحت جثة هامدة لا تقوى على القتال إلا بعد 50 عاماً في الأقل.
الأمر نفسه ينسحب حالياً على القوات الباسلة لحركة "حماس" في إطار المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال الذي فرض على الشعب الفلسطيني العظيم قيوداً لم نرَ لها مثيلاً من قبل، بدءاً بالإعدام رمياً بالرصاص في الشوارع إلى هدم المنازل على رؤوس سكانها وترويع الآمنين من خلال النموذج الإسرائيلي المعروف الذي يمكن أن نطلق عليه نموذج "إرهاب الدولة"، أي تحول الدولة بكامل قدراتها إلى مصدر يؤرق الطرف الآخر. فالبصمة التي تركتها عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على وجه الجيش الإسرائيلي ستظل وصمة عار يعانيها ذلك الجيش الذي هزمته حركة فلسطينية واستولت على أسلحته وعتاده وأسرت المئات من أبنائه.
ونحن هنا لا نقوم بعملية تقويم لما جرى، ولكن نرصد ما يجري وتأثير ذلك في المعنويات الفلسطينية، إذ إن مقاتلي "حماس" أدركوا أنهم فقدوا المعارك من حيث "التكنيك"، ولكنهم كسبوها على المدى الطويل من حيث الاستراتيجية والاعتراف بقدراتهم، على رغم صعوبة الظروف وإحكام القبضة الإسرائيلية على مفاصل الأرض والسكان والتحكم تماماً بعنصري الزمان والمكان، لذلك فإن المفاوض الفلسطيني في ظني يمكن أن يجلس إلى مائدة المفاوضات مع الطرف الآخر من دون حساسية أو شعور بالنقص، فالحرب حاربها ووصل بها إلى معارك من شارع إلى شارع ومن منزل إلى منزل، كما أن رصيده أمام الرأي العام العالمي على مستوى الشعوب داعم ومؤيد، أما على مستوى الحكومات فإن كثيراً منها منحاز إلى الجانب الإسرائيلي بحكم سيطرة الولايات المتحدة على المنظمات الدولية واستخدامها لحق "الفيتو"، في ظل معادلة صفرية لا ذنب للفلسطينيين في وجودها.
ولنتذكر جيداً أن الحقوق لا تعود لأصحابها بالقتال وحده ولا بالتفاوض وحده أيضاً، ولكنها تعتمد على العنصرين معاً، عنصر التميز على الأرض بمعنى عدم الانسحاب أمام جحافل الطرف الآخر وأسلحته المتقدمة التي تتدفق عليه من الأم الحانية الولايات المتحدة، ولنتذكر دائماً أن الذين حاربوا فاوضوا أيضاً وأن السلام لا يتحقق في النهاية إلا بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، فتلك هي نهاية كل حرب ونتيجة كل مقاومة.
وليسمح لي القارئ بعرض أمثلة من خلال الملاحظات الآتية:
أولاً، إن السياسي التونسي الذي سبق عصره الحبيب بورقيبة هو أهم من تحدث عام 1965 في لقاء أريحا عن حل الدولتين وهو صاحب نظرية التدرجية في حل المشكلات أو مبدأ "خذ وطالب"، وفقاً للمقولة الفقهية الشهيرة أن "ما لا يُدرك كله لا يُترك جله". كما أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عندما ذهب إلى الخرطوم لحضور القمة العربية ورفع هو ورفاقه شعار اللاءات الثلاثة، فكأنما كان يفعل ذلك في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) المريرة بكل تداعياتها السلبية. ولكن عبدالناصر لم يغلق رأيه عند هذا الحد، بل استقبل عدداً من المبعوثين المصريين من ذوي الخبرة في فهم الرأي العام الغربي إذ إنهم عاشوا أعواماً طويلة في الخارج، وتيقن له أن التلويح بالسلام، إلى جانب الاستعداد للحرب، يؤدي إلى نتائج إيجابية في الصراع الدائر بين الأطراف. وتذكر مراجع القانون الدولي القديمة والحديثة أن وسائل حل النزاعات أربع تبدأ بالعمل العسكري وتنتهي بالمفاوضات وتمر بينهما بكل من الوساطة والتحكيم، ولقد استعادت مصر، على سبيل المثال، أرضها بالوسائل الأربع، فقاتلت في 1973 ودخلت في مفاوضات مع الخصم بعد ذلك وقامت بعض الشخصيات الدولية مثل مستشار النمسا برونو كرايسكي بدور وسيط وانتهى الأمر باستعادة مصر لكل أراضيها بما في ذلك منطقة طابا بالتحكيم الدولي أيضاً، وبذلك فإنه لا يوجد باب مغلق أمام المفاوضات ما دامت الطرق مفتوحة والوسائل متاحة بين الأطراف المتصارعة، وقديماً قالوا "شيئان يباح فيهما كل أمر... الحب والحرب"، فكل الوسائل مشروعة بحيث يجري استخدامها في الصراعات القائمة، بينما لا يكون الأمر كذلك في الظروف العادية والسياسات اليومية المعتادة.
ثانياً، إن التكتلات الإقليمية والتجمعات الجيوسياسية تطرح نفسها في منطقة الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق، ففي حرب غزة الأخيرة كان التناغم واضحاً بين المقاومة على أرض فلسطين التاريخية سواء في القطاع أو في الضفة، متوازياً مع المواجهات في شمال العراق وشرق سوريا ضد الوجود الأميركي أو القوى المتعاطفة معه هناك، ثم حاول "حزب الله" على الجانب الآخر أن يحرك الحدود اللبنانية- الإسرائيلية بفتح جبهة الجنوب وإن لم يستكمل ذلك لأسباب تتعلق بالعلاقات الإيرانية- الأميركية ومستقبلها القريب والاتفاق النووي المزمع توقيعه بين طهران والدول الغربية حول نشاطها النووي. ثم برز محور جديد آتٍ من جنوب الجزيرة العربية تمثل في غارات الحوثيين على السفن العابرة لباب المندب والهجوم عليها بطائرات مسيّرة أو بزوارق اعتراضية رغبة في تأكيد التنسيق بين ساحات القتال أمام الوجود الأميركي- الغربي- الإسرائيلي في المنطقة، وكذلك يمكن اعتباره نوعاً من إثبات الوجود لمحاور طهران العسكرية في المنطقة. ولا شك في أن ما فعله الحوثيون لفت نظر الغرب إلى الأخطار الناجمة عن وجودهم في جنوب الجزيرة على نحو ربما يهدد أمن البحر الأحمر من جانب آخر.
ثالثاً، إن الحربين العالميتين الأولى والثانية انتهتا بعد قتال مرير راح ضحيته عشرات الملايين من أبناء الشعوب الأوروبية والآسيوية بل الأفريقية أيضاً، ولكن تلك الحروب الكونية الكبرى انتهت بالوسائل السلمية وكانت اتفاقات استسلام الدول مناسبات تاريخية حزينة لها ودليلاً على انصياع العالم المعاصر لمفهوم الاعتراف بالقوة العسكرية. ومهما اختلفت وجهات النظر وفقاً للدراسات الاستراتيجية المعاصرة، إلا أن المركز التفاوضي لأطراف الصراع إنما يتحدد قوةً وضعفاً بحسب أوضاعها على الأرض في ميادين المعارك، إذ لا شك في أن التفوق العسكري في الحروب يعطي تلقائياً ميزة للدول المتحاربة ويجعلها في مركز تفاوضي أقوى من غيرها، فساحات القتال تظل هي "الترمومتر" المؤثر في قوة المفاوض على الجانب الآخر من الصراع المحتدم.
رابعاً، أظن أن الإقدام على العمل العسكري بين الأطراف المتصارعة هو تمهيد تلقائي لفتح طريق نحو المفاوضات في مرحلة تالية، لذلك ليس غريباً أن يقال إن هنري كيسنجر داهية الدبلوماسية الأميركية نصح السادات قبيل حرب أكتوبر عام 1973 بضرورة القيام بعمل عسكري لتحريك الموقف على جبهات القتال بين مصر وإسرائيل على نحو يدفع الطرفين إلى طاولة المفاوضات بصورة جدية وفاعلة، إيماناً منه بأن التسوية السياسية آتية في نهاية المطاف، مهما كانت العقبات والمصاعب إلا أن عنصر الزمن يقوم بدوره الفاعل في هذا السياق.
خامساً، إن حرب غزة الأخيرة، على رغم الآلام والدموع والدماء والضحايا، إلا أنها قد تكون مقدمة للتفكير الجاد في تسوية شاملة وعادلة تتيح الحد الأدنى من مطالب كل طرف وتصبح مبرراً لاتفاق سلام تلتزم به الأطراف كافة، إذا خلصت النوايا وصدقت المواقف.
إنني أردت من هذه السطور السابقة أن أقول إنه ليس بالمقاومة المسلحة وحدها تتحرر الشعوب، ولكن لا بد من زخم سياسي يملأ الفراغ ويعطي الجميع الحق في حياة آمنة في إطار الشرعية الدولية واحترام حقوق إنسان العصر ويجدد الأمل في المستقبل، بعيداً من هوس الحروب ومأساة القتال والرغبة الدائمة في سفك الدماء.