لا يوجد تفسير واحد لأسباب هذا الخوف الذى يستدعيه البعض كل يوم مع حلول ذكرى ثورة 25 يناير، ولا يوجد سبب مقنع يفسر هذا التحول من الاحتفال بالثورة إلى الخوف منها، ولا كيف تحولت ذكرى الحدث الأهم فى تاريخنا المعاصر إلى مصدر قلق واتهامات بالخيانة والتآمر، وتوسيع غير مسبوق فى حملات الاعتقال والملاحقة الأمنية، وفى إهدار واضح للطاقة الإيجابية، التى فجرتها «يناير» فى المجتمع المصرى، وكان يمكن أن تؤسس لدولة قانون قادرة على تحقيق أهداف الثورة فى العيش والحرية والكرامة الإنسانية.
والحقيقة أن الخوف من «يناير» مرجعه الفشل فى تحقيق أهداف الثورة، رغم أن المفترض أن يكون النظام الجديد مقتنعاً بأنه لولا «يناير» لما وصل للسلطة، ولكانت البلاد ترزح تحت وطأة مشروع التوريث، وقيادات الدولة مقسمة بين «عواجيز مبارك» وشلة التوريث.
ورغم أن «يناير» كانت هى طريق وصول الرئيس السيسى وكل رموز 30 يونيو إلى السلطة، فيصبح السؤال: لماذا إذن الخوف منها؟ ولماذا وصلت سطوة الأمن لهذه الدرجة المقلقة، التى تجاوزت بمراحل ما كان يجرى فى عهد مبارك؟ وفى نفس الوقت لماذا يصر البعض على استدعاء الثورة مرة أخرى والنزول إلى الشارع مرة ثالثة، مع أن المفروض أن البلاد بدأت مسارها السياسى، وأن التغيير يأتى عبر مؤسسات وأحزاب وضغوط شعبية لا عبر ثورة؟
يقيناً هناك دعاوى إخوانية بالتظاهر والتخريب فى يناير، ومن الواضح أيضا أن هناك دعاوى ثورية واحتجاجية للتظاهر مرة أخرى سواء فى «يناير» أو فى غيرها، ويقيناً أيضا هناك رفض شعبى للتظاهر والاحتجاج ليس فقط من خلال الإعلان عن عدم المشاركة، إنما أيضا فى إدانة كل مَن يشارك فى التظاهر أو فى الدعوة مرة أخرى للثورة، حتى لو كان جزء كبير من هؤلاء غير راضٍ عن أداء النظام السياسى، إلا أنه يرفض فكرة الثورة مرة أخرى.
ويبقى السؤال: لماذا تعثرت ثورة يناير، ولماذا تحولت إلى مصدر للخوف والقلق لدى النظام السياسى ومصدر لاستمرار الاحتجاج بالنسبة لبعض الحركات السياسية الثورية؟
الحقيقة أن انتفاضة الشعب أو ثورته العظيمة فى 25 يناير كانت حدودها وسقفها الحقيقى إصلاحيا، رغم اتساع مشاركة الجماهير بصورة أكبر بكثير من بلاد أوروبا الشرقية، ففى يوم 12 فبراير 2011، أى فى اليوم التالى لتنحى مبارك، شهدنا شباب مصر ورجالها ونساءها وهم ينزلون إلى الميادين، لينظفوها ويقبلوا قرار مبارك بأن تتولى القوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، ويقبلوا- ضمناً أو صراحة- أى بديل يأتى من داخل الدولة مادام كان من خارج شلة التوريث ورجالات مبارك المقربين.
استدعاء الخوف فى ذكرى يناير جاء نتيجة غياب البوصلة عن الجميع عقب الثورة بصورة جعلت مسارنا السياسى يمر بتعرجات لم تعرفها تجربة نجاح واحدة، فمنذ سقوط مبارك لصالح الفراغ إلى مجىء الإخوان للسلطة دون دستور أو قواعد قانونية منظمة تلزمهم بها- ثم سقوطهم بثورة شعبية تطلبت تدخل الجيش لنجاحها، أعقبها مجىء السيسى للسلطة وانتخابه من قِبَل غالبية ساحقة من المصريين، واستمر فى الحكم دون وسيط سياسى ودون امتلاك رؤية تقول إن بلداً مثل مصر يحتاج لتنمية سياسية بالتوازى مع التنمية الاقتصادية، وإذا تعثرت إحداهما فستفشل الثانية.
ظلت انقلابات مصر وتحولاتها الجذرية فى الفراغ، أو بالأحرى فى الهواء الطلق، وليست متجذرة بمشروع سياسى فى أرض الواقع، فحين تنحى مبارك تاهت البلاد فى مسار انتقالى مرتبك، بسبب نظامه الشائخ ودولته المترهلة، التى لم تستطع أن تحول شعار «الجيش والشعب يد واحدة» إلى برنامج عمل يضع البلاد على مسار إصلاحى صحيح.
وعاشت البلاد على مدار عامين عصر «الفعاليات الثورية»، التى حاصرت الأقسام ومديريات الأمن والوزارات السيادية، ونسى أو تناسى كثير ممن شاركوا فيها أن مَن تركوهم يصولون ويجولون فى الشوارع والميادين والفضائيات المختلفة قد جعلوهم مصدرا رئيسيا لخلق رأى عام غالب من المصريين رافض لاحتجاجاتهم الثورية، وينتظر بأى ثمن مَن يُخلصهم من هذه الفوضى والاستباحة الثورية، وخرجت إشارات كثيرة من العباسية ومن وتجار وسط البلد تعبر عن سأمها ورفضها هذه الممارسات، ومع ذلك لم يَرَها كل مَن تربى داخل ثقافة «جيتو النشطاء»، الذى لا يرى من الأصل المجتمع المصرى.
والحقيقة أن قسوة الإجراءات الأمنية الحالية استندت على سحب الرصيد الشعبى من ثوار يناير، وتذكير المجتمع بالأيام الصعبة التى عاشها مع الفعاليات الثورية، وأصبح كل ناشط الآن مخرباً، وأى معارض متآمراً- ولو محتملًا- وتقبل قطاع واسع من المجتمع المصرى الخطاب الإعلامى والأمنى المعادى لثورة يناير، وصدق أن مصر مهددة بثورة أخرى، وليست مهددة بسبب الفشل وسوء الأداء وانتهاك كرامة الإنسان.
استدعاء الخوف سببه الرئيسى أن كثيرا ممن تصدروا مشهد «يناير» كانوا خليطا من مشارب متعددة، معظمهم أنقياء اتسموا بالنبل والشرف، وقلة منهم انتموا إلى «ثوار ما بعد الثورة» ممن خرسوا فى عهد مبارك ونطقوا بعد أن أصبحت الثورة مصدر مكانة اجتماعية ومهنة، وهؤلاء كانوا أحد مصادر تحريض الرأى العام ضد ثورة يناير.
الخوف من «يناير» سببه أولاً أداء سياسى مرتبك وغياب كامل للرؤية وضعف مؤسسى واضح، ولكنها حالة بنت شرعيتها وقوتها على فشل مدنى وثورى وإخوانى كبير على مدار الأعوام الخمسة الماضية، والمطلوب هو استعادة الخيار السياسى المدنى فى البناء والديمقراطية، وإلا فسنبقى كثيرا أسرى الخوف من «يناير»، والذى يتقبله قطاع ليس بالقليل من المصريين.