لم نضع يدنا على علاقة سوية ومتوازنة بالغرب، ومن الواضح أيضا أن الأخير كان «أشطر» منا حين فرض معاييره المزدوجة علينا وجعلها هى محور النقاش العام، فاكتفينا بإدانة تحيزاته ونظرته الاستعمارية دون أن نطرح تصوراً واضحاً لرؤيتنا نحن للتعامل معه يقوم أساساً على فهم النموذج الغربى من داخله بعيداً عنا أولًا، ثم بعد ذلك نشتبك مع موقفه منا إيجاباً أو سلباً.
والحقيقة أن حادثة «شارلى إبدو» كاشفة للخلل الموجود فى هذه العلاقة مع الغرب، فالأخير اعتاد أن يدين الإرهاب الذى يحدث فى بلادنا، ولكنه كما سبق أن أشرت أضاف دائما كلمة «لكن»، وعادة ما حاول أن يبتزنا بخيارات سياسية لا نريدها، باعتبارها هى الطريق لمكافحة الإرهاب، وأحسنت مصر أنها لم تلتفت إلى نصائح الأمريكيين فى المساومة على بقاء الدولة الوطنية المصرية عقب 3 يوليو، ورفضت أن تخضع لابتزاز العنف والإرهاب وبقيت واقفة.
أما نحن فقد وقع بعضنا فى الفخ الخطر، ورفض بعضنا إدانة جريمة «شارلى إبدو» الإرهابية، لأن الصحيفة اعتادت أن تسىء للرسول الكريم فى رسوماتها الكاريكاتورية، والبعض الآخر برر تلك الجريمة ودافع عنها، كما كتب أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين فى سوريا، وهو د. موفق السباعى، (نجل قيادى آخر هو مصطفى السباعى، الذى تميز بالاستنارة والتقدمية وتحدث عن الاشتراكية فى الإسلام وأيد بدرجة ما جمال عبدالناصر)، مقالاً لاقى رواجاً كبيراً على المواقع الإسلامية، تحت عنوان: «ألا تحب رسول الله؟» جاء فيه: «ألَّا تدافع عن رسولك.. بحجة أنك ضعيف.. وقليل الحيلة.. فذلك أمر قد.. يكون لك فيه عذر عنده!!!. ألَّا تؤيد الدفاع عن رسولك.. بحجة الخوف.. والرعب من أبناء الصليب.. وأحفاد بنى قريظة.. فذلك أمر قد.. يكون لك فيه عذر عنده!!! أن تلوذ بالصمت.. وتختبئ فى جحرك.. خشية.. وفَرَقاً.. وجبناً.. فذلك أمر قد.. يكون لك فيه عذر عنده!!!
أما أن ترفع عقيرتك.. وتستنكر.. وتندد بأعلى صوتك.. وتهاجم.. وتسفه.. من يدافع عن رسولك.. بل تلهث راكضاً.. لتنافس أبناء الصليب فى الاستنكار.. وتمالئ.. وتحابى.. وتجامل الرأى الصليبى.. الوثنى.. الكاسح!!! ليقولوا عنك إنك مسلم مدجن.. أو معتدل.. تعادى الإرهاب!!! فذلك دناءة.. ولؤم.. وخسة.. واستخزاء.. وانبطاح.. وخنوع للصليب!!! وخيانة لله.. ورسوله.. وحرمان لك- أيها المسكين.. المنهزم.. المتضعضع- من شفاعته!!! ومَنْ يُحرَم من شفاعته.. لا يرَ الجنة.. ولا يشم ريحها.. وإن ريحها ليُشم على بعد سنوات ضوئية!!!».
والحقيقة أن هذا الخطاب كارثى سواء فى صورته الشامتة أو المبررة للقتل والإرهاب، والتى تستند إلى تفسيرات منحرفة لا أساس لها فى صحيح الدين، لأنك تتكلم من الأصل عن مجتمع آخر وثقافة أخرى ليس لك سلطان عليها تماما مثلما نرفض أن يكون للغرب سلطان علينا، خاصة فى أمورنا الثقافية والحضارية.
كيف تجبر مجتمعا مختلفا عنك فى الثقافة والفكر وينطبق عليه قول الله تعالى: «وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»، وتحاول أن تفرض عليه منظومة قيمك وتعاليم دينك، هذا أمر يخصنا ولا يخصهم، تماما مثلما أنَّ تقَبُّلهم المس بالمقدسات الدينية المسيحية والإسلامية أمر يخصهم هم، ولم يستطيعوا فرضه علينا بأن غيروا قوانيننا ونظامنا العام.
إن ما يجب أن نرد به على الغرب ليس تبرير الإرهاب ولا اعتبار أن قتل العلمانيين والملحدين يمثل انتصارا لرسول الله، إنما بناء مشروع فكرى وسياسى لمواجهة هذا الاستعلاء الغربى الذى أصر على عدم الاعتراف بوجود مراكز حضارية مختلفة ترفض الإساءة للمقدسات الدينية، فلم تَنَلْ كل الأفكار التى طالبت بوضع قوانين تمنع الإساءة للمقدسات الدينية آذاناً صاغية فى الغرب، واعتبر التيار الغالب داخل هذه المجتمعات أنها جزء من حرية الرأى والتعبير، وكثيرا ما تضمنت بعض الصحف تهكماً على السيد المسيح وعلى السيدة مريم، وخرجت بعض الأفلام لتمسهما معاً، وتثير استهجان المؤمنين فى العالم كله، وظلت هذه القضايا فى إطار الشد والجذب بين التيار العلمانى المسيطر على الإطار الثقافى والسياسى فى الغرب، وبين المتدينين الذين لم يستطيعوا إصدار قوانين قاطعة من شأنها منع ازدراء الأديان كما هو حادث فى البلدان العربية والإسلامية.
وظلت المفارقة أن الغرب تقبل بسعة صدر المساس بالمقدس الدينى بشكل عام مسيحيا وإسلاميا، فى حين رفض المساس «بمقدس مدنى» خاص بالمحرقة اليهودية، أى «الهولوكوست»، وصار من المحرمات على أى باحث أو كاتب أن يناقش الوزن الحقيقى لتلك الجرائم طوال الحرب العالمية الثانية، بالقول مثلا إنها جزء من جرائم شهدها العالم كله أثناء الحرب وليست الجريمة الوحيدة، أو إن عدد الضحايا هو بمئات الآلاف وليس بالملايين.
مطلوب الاشتباك العلمى والسياسى مع الغرب، وتقديم فكرة مبسطة تقول: وَسِّعوا قليلا دائرة «المحرمات القانونية»، لتشمل رفض المساس بالأديان وبالأنبياء وبالذات الإلهية، احتراماً للتنوع الثقافى الموجود فى العالم.
إن هذا العمل يحتاج إلى جهد قانونى وسياسى كبير يشتبك مع كثير من المفاهيم الثقافية الراسخة فى الغرب، وصار من البديهى والمنطقى أن يقوم هذا الجهد على احترام متبادل لخصوصية كل ثقافة، وعلى احترام الجانب العربى لعلمانية أوروبا ولخصوصية خبرتها الحضارية ومشروع نهضتها، وأن يحترم الغرب بالمقابل الخصوصية الحضارية والثقافية للشرق الإسلامى والصينى والأرثوذكسى بالبحث عن القاسم الإنسانى المشترك، وتقنين معايير قانونية جديدة تنص على احترام المعتقدات الدينية وعدم التهكم على المقدسات والأنبياء.
من المهم أن يحل هذا الجهد محل طريقة الوعظ التى يستخدمها كثير منا فى التعامل مع الغرب وترديد جمل لم تغير من واقعنا ولا واقعهم شيئا من نوع: يجب أن يعرفوا الإسلام الحقيقى وسماحته، وهى كلها قضايا لم يهتم بها الأوروبيون إلا على سبيل الفضول التاريخى وبمنطق علمانى بحت وليس إيمانيا، فالمطلوب أن يعترفوا بوجودنا، مهما كانت مشاكلنا، وأن يحترموا تنوع البشرية الثقافى والحضارى.
علينا أن ندين الإرهاب فى أى مكان، مهما تكن أسبابه بمنطق إنسانى، ودون الحاجة أن نكون «شارلى» ولا أن يكون الغرب نصيراً لسيدنا محمد.