تعبير المواطنة تعبيرٌ حديث رسَّخه رجالُ قانون وفكر، وعمَّقه علماء اجتماع وسياسة وصار تعبيراً عن الدولة الحديثة التي تؤمن بالدستور والقانون ولا تميز بين مواطنيها على أساس طبقي أو عرقي أو ديني.
وفي السنوات الأخيرة صك بعض باحثي الاجتماع السياسي مفهوماً جديداً سمي المواطنة الحية أو المعيشة (Lived Citizenship)، وتعدّ أن المواطنة ليست مفهوماً فطرياً يولد عليه الإنسان ويتحقق فقط بالدستور والقانون، إنما هو مكتسب ويتحقق بالمعايشة اليومية ونتاج التفاعل مع منظومة القيم السائدة والمؤسسات القائمة.
وكتاب الباحثة د. هانية صبحي عن المدارس أو التدريس في أمة (Schooling the nation)، والصادر هذا العام عن مطبوعات جامعة كمبردج العريقة، فيه عرض وافٍ لهذا المفهوم عبر تحليل لدور المؤسسات التعليمية.
وقد شهدنا تجليات كثيرة لمفهوم «المواطنة المعيشة» في أماكن وبلاد كثيرة، خصوصاً في ملاعب الرياضة، وشهدت مصر مؤخراً ظاهرة تجنس عدد من أبطالها الرياضيين بجنسيات دول أخرى بعد معاناة مع الإدارة واتحادات اللعبة، مثلما فعل مؤخراً الأخوان محمد ومروان الشوربجي (المصنف السادس عالمياً) لاعبا الإسكواش المصريان بتجنسهما بريطانياً وتمثيلهما المنتخب البريطاني في البطولات الدولية.
وقد أثار قرار الأخوين جدلاً واسعاً في مصر وفتح عليهما باب هجوم من مسؤولين رياضيين وإعلاميين باعتبار أن الجنسية انتماء ووطن، وهي «مثل الأم مهما كانت أزماتها لا يجب التخلي عنها»، في حين تحدث كثيرون عن المعاناة التي عاشاها مع اتحاد اللعبة وحجم التجاهل المادي والمعنوي الذي تعرضا له، مما دفعهما إلى الحصول على جنسية دولة أخرى.
وقد بدأت القصة مع لاعب الإسكواش محمد الذي قرر أن يلعب تحت العلم البريطاني، ثم لحق به في شهر يوليو (تموز) الماضي شقيقه مروان، وفتح ملف «المواطنة المعيشة» ممثل في معاناة هذين اللاعبين بسبب الظروف المحيطة بهما، وتحدث الكثيرون عن ممارسات صادمة قام بها اتحاد الإسكواش بحق كثير من اللاعبين وحالة التجاهل الإعلامي والمعنوي وضعف المردود المالي، رغم أن مصر من أكثر البلدان تقدماً وحصولاً على البطولات في هذه اللعبة.
وتحدثت والدة بطلة العالم للناشئين أمينة عرفي، عن تهديدات الاتحاد بتوقيع غرامة مالية ضخمة عليها أثناء بطولة العالم لأسباب إدارية تدل على انعدام الحس المهني في التعامل مع معنى وقيمة البطولات العالمية. وكذلك هروب لاعب المصارعة الدولي أحمد فؤاد بغدودة إلى فرنسا عقب حصوله على الميدالية الفضية في بطولة أفريقيا بتونس، وحديث والده عن ظروفه المعيشية الصعبة وحجم المعاناة التي تعرض لها وتجاهله مادياً ومعنوياً، مما دفعه إلى الذهاب لفرنسا بدلاً من العودة مع منتخب بلاده إلى مصر.
وأخيراً جاء التسجيل المصور لوالدة بطل العالم في «الكونغ فو» عمر شتا، التي عرضت ميدالية ابنها للبيع لعدم تقديم أي دعم مالي له، ولغياب الدعم المعنوي أيضاً، لأن حتى درجات التفوق الرياضي لم يحصل عليها، وقالت إنه بسبب «اللوائح».إن مفهوم المواطنة المعيشة عدّ أن الانتماء ليس قضية «جينية»، وأن الولاء الوطني يتعمق أو يتراجع من خلال الممارسة و«عبر تفاعل مع أجهزة الدولة وبيروقراطيتها الشرطية والإدارية»، بل إنه أضيفت المشاعر والأحاسيس كأحد محددات المواطنة المعيشة، وعدّ أن مشاعر المواطن تجاه محيطة الاجتماعي والسياسي والثقافي تعزز أو تضعف من انتمائه كمواطن.
والحقيقة أن مفهوم المواطنة المعيشة يساعدنا في فهم الظروف المعنوية والمالية المحيطة بهؤلاء الرياضيين التي كانت سبباً في هجرة بعضهم، وأيضاً لا يتجاهل الوضع المادي والتحقق الوظيفي الذي يتمتع به بعض الإعلاميين الذين هاجموهم بشراسة، وعدّ أن تحققهم المهني جعلهم لا يشعرون بحجم المعاناة التي يعانيها لاعبون كبار وأبطال بسبب تجاهلهم أو عدم فهم سيكولوجية البطل في الممارسة اليومية.
إن قضية المواطنة والانتماء الوطني فيها جزء أصيل وفطري يولد مع الإنسان، ولكنْ هناك جزء آخر مكتسب من المواطنة المعيشة، ولم تعد قضية المواطنة نسقاً مغلقاً وساكناً، إنما صارت متغيرة ومتحولة تبعاً للسياقات السياسية والثقافية المحيطة.
صحيح أن هناك حالات تمسكت بـ«المواطنة الأصلية» دون أن تتخلى عن «المواطنة المعيشة» الجديدة، مثل كثير من لاعبي المغرب الذين شاهدناهم العام الماضي في كأس العالم حين جاءتهم الفرصة لـ«إثبات» المواطنة الأصلية فاختاروها، ومثلوا المغرب في كأس العالم ودون أن يتخلوا عن المواطنة المعيشة التي اكتسبوها من خلال احترافهم داخل كبريات الأندية الأوربية.
ورغم أن كثيراً من لاعبي المنتخب المغربي حملوا جنسيات أوروبية وأتقنوا لغتها، ومع ذلك اختاروا بمحض إرادتهم أن يلعبوا لوطنهم الأم الذي زاروه ولم يعيشوا فيه، أو كما قال حكيم زياش النجم المغربي الذي ولد في هولندا، إن دمه «أحمر» وليس «برتقالياً»، تعبيراً عن لون «فانلة» المغرب، وهو أمر لافت وذو دلالة أن يختار نجم ولد في أوروبا وعرف الاحتراف في أنديتها الكبرى أن يلعب لبلد آبائه وأجداده.
كما علينا أن نلاحظ أن تجربة النجم المصري محمد صلاح تحمل في جانب منها رسالة عكسية، عن تلك التي قدمها عدد من نجوم الألعاب الفردية في مصر (إسكواش ومصارعة وغيرهما)، فالرجل تمسك بأن يمثل وطنه الأصلي؛ أي مصر، وأن يكون قائداً لمنتخب بلاده في كل المناسبات الدولية، وصحيح أنه تمتع مثل لاعبي المنتخب المغربي بمزايا «المواطنة المعيشة» في ظل نظام احترافي متقدم، ولم يترتب على تمثيله لمنتخب بلاده أن يتخلى عن مميزات المواطنة المعيشة في أوروبا من نظام احترافي عادل ورواتب كبيرة ومنظومة نجاح.
يقيناً لا يمكن النظر إلى قضية الانتماء الوطني باعتبارها تاريخاً ساكناً وجوهراً ثقافياً وأناشيد وطنية وذكريات خاصة فقط، إنما هي أمر «يشتغل عليه» وفيه جوانب مكتسبة، فالجوهري والأصيل والفطري يمثل جانباً في قضية المواطنة، ولكن بالقطع هناك جوانب أخرى مكتسبة من الواقع، ومن الشعور بالكرامة والعدالة تعزز أو تضعف الانتماء الأصلي.