بقلم:عمرو الشوبكي
الحضور الكبير من أنصار «حزب الله» ومؤيديه وحلفائه في تشييع جنازة الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله في بيروت، أعاد فتح النقاش حول صيغة الحزب في لبنان ومستقبلها، والتحديات التي تواجه خطاب الحزب ومشروعه الفكري والسياسي.
والمؤكد أن قوة «حزب الله» العسكرية تراجعت، وجرى تفكيك جانب كبير من ترسانته العسكرية نتيجة العدوان الإسرائيلي، إلا أن القضية الأساسية تتمثل في أن المشروع السياسي الذي يتبناه الحزب لا يمكن تخيل وجوده بالطريقة ذاتها في أي مكان آخر خارج لبنان، ليس بسبب أن أفكار المقاومة والممانعة غير موجودة خارج لبنان، إنما لأن في كل هذه البلدان يوجد بها تيار ممانعة يشبه «حزب الله»، يقابله تيار آخر يرفضه.
والحقيقة أن أخطر ما جرى في لبنان هو انتقال «حزب الله» من حالة «المقاومة النقية» التي نالت إجماع اللبنانيين في عام 2000، إلى حالة المقاومة و«حسابات أخرى» التي دخلت فيها اعتبارات آيديولوجية وإقليمية، ولم تعد أساساً قائمة على حسابات وطنية لبنانية، أو على الأقل ليست محل توافق من باقي مكونات الشعب اللبناني.
والحقيقة أن الجديد الذي فرضه «حزب الله» في الواقع اللبناني منذ مواجهات 2006 كان قائماً على اعتبار ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، خالدة وتعطيه الحق في الدخول في «حرب إسناد» أو تضامن مع غزة، من دون الأخذ في الاعتبار أن الغالبية العظمى من اللبنانيين، بمن فيهم أشد المتضامنين مع القضية الفلسطينية، يختلفون معه، ويرون أن هذا التضامن سيكون عبر الدعم القانوني والسياسي والمادي، وليس الدخول في حرب مع إسرائيل يسقط فيها مئات الشهداء، وتدمر فيها مدن وضيع كثيرة.
والحقيقة أن «حزب الله» عمل على احتكار الساحة الشيعية، بحيث بدا الأمر وكأن هناك «طائفة تقاوم» في مواجهة طوائف أخرى «متخاذلة»، وحاول فرض سردية «مقاومة» على مجتمع متنوع لا يمكن أن يُجمع على وجود تنظيم مسلح موازٍ للجيش، ويدخل في حرب ضد دولة احتلال عدوانية من دون اتفاق مع باقي شركائه في الوطن، ثم يعتبر أن من يختلف مع توجهاته ينفذ الأوامر الأميركية والإسرائيلية.
إن أطروحة الممانعة في الشرق الأوسط لها بريقها وجمهورها، ولكنها ليست الوحيدة ولا يوجد بلد أو تنظيم مسلح، بما فيها التنظيمات الشيعية المسلحة في العراق، تجاهل الخطوط الحمر التي وضعتها الدولة بمنع الدخول في مواجهة شاملة مع إسرائيل، كما أن إيران نفسها يوجد فيها تيار مجتمعي وسياسي معتبر يرفض مواجهة الغرب وإسرائيل، ويطالب بأن تطبّع إيران علاقتها مع أميركا، وأن تتراجع عن صرف كل هذه الأموال على أذرعها في المنطقة، بما فيها «حزب الله»، وأن تركز على حل مشاكلها الداخلية.
وحتى الخيار المحافظ وخط المرشد لم يعلن دعمه للقضية الفلسطينية وفق قناعته العقائدية فقط، إنما اعتبرها ورقة دفاع عن طموحاته الوطنية متمثلة في المشروع النووي الإيراني، وفي الحضور الإقليمي؛ أي إن الخطاب الآيديولوجي الإيراني المقاوم لم ينفصل أيضاً عن مصالح إيران العليا، ولم يكن فقط لوجه الله والقضية الفلسطينية.
أما بلد مثل تركيا التي تنتمي لتيار الاعتدال والعضو في حلف «الناتو»، فيعتبر فيه الرئيس رجب طيب إردوغان متعاطفاً وداعماً للقضية الفلسطينية سياسياً وقانونياً من دون أن يواجه إسرائيل مواجهة خشنة من أجل غزة وفلسطين، ومع ذلك ظل هناك تيار في تركيا يرفض ما فعلته حركة «حماس»، وينتقدها بقسوة، ويختلف مع إردوغان في موقفه منها. وكذلك بلد مثل مصر ظل فيه تيار يرى أن السادات أصاب بالتوقيع على معاهدة السلام، وأنه كان من المستحيل على مصر أن تستعيد كامل سيناء لولا مبادرته، وهناك من يعتبر أن التراجع الذي أصاب الدور المصري نتيجة «كامب ديفيد»، والتخلي عن خط عبد الناصر.
وبصرف النظر عن شكل النظام السياسي في كل هذه البلدان، فإنه لا يمكن اختزال مجتمع أو طائفة داخل خيار عقائدي وآيديولوجي بعينه، أو أن تعتبر مخالفيك عملاء أو مأجورين، فالاعتدال قد يعني الانبطاح، وقد يعني نموذج جنوب أفريقيا في المقاومة السلمية والحملات القانونية ضد دولة الاحتلال، كما أن الممانعة قد تعني مقاومة مسلحة غير محسوبة تمارس الاستعلاء على شركاء الوطن، وقد تعني اختياراً اضطرارياً توافَق عليه الجميع من أجل خوض معارك التحرر الوطني. تصور «حزب الله» أن حاضنته وطائفته يجب بالحتم والضرورة أن تكون مع المقاومة المسلحة، أمر يجب مراجعته؛ لأنه خارج الفطرة السليمة التي لا يمكن أن تختزل بلداً أو طائفة أو ديناً خلف خيار عقائدي وسياسي محدد، مهما كانت طبيعته، ومهما كان نبله.