ما يمثله ترامب من قيم وأفكار له طبعات مختلفة على مستوى العالم، سواء فى الغرب أو الشرق، وهو أقرب لظاهرة اجتماعية وسياسية أخذت صورا مختلفة فى بلاد كثيرة من العالم، ومنها مصر، حتى لو كان ترامب الأمريكى كارهاً للمهاجرين، خاصة العرب والمسلمين، وليس فقط للإسلاميين والمهاجرين، ومع ذلك لايزال هناك من يتمنى فوزه فى بلادنا داخل النخبة الحاكمة وبعض مؤيديها.
وقد انتقل دونالد ترامب، المرشح الأمريكى، الذى نجح فى أن يدخل سباق الرئاسة منافسا لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون، بسلاسة من مرشح متطرف خارج السياق العام والمبادئ الأساسية التى يقوم عليها النظام السياسى الأمريكى إلى مرشح يمينى محافظ قبلته قواعد النظام القائم بسلاسة، وأصبح المرشح الثانى فى ترتيب السباق الرئاسى الذى لن يدخل على الأرجح البيت الأبيض.
فى الواقع أن ترامب لا يمثل فقط طريقة فظة فى التعبير عن نفسه بمفرداته التى تحتقر النساء والمهاجرين والمسلمين، فهى أمور فى جانب منها تخص تركيبته الشخصية ولا تخص بالضرورة المشروع الذى يمثله، إنما الأهم ماذا يمثل وكيف وصلنا إلى مرحلته.
الحقيقة أن ترامب ليس ابن الطبقة السياسية التقليدية التى اعتادت أن تسيطر على الحياة السياسية الأمريكية منذ عقود، وانتمت للحزبين الكبيرين الديمقراطى والجمهورى، فى حين أن الرجل حتى ولو انتمى شكليا للحزب الجمهورى فهو ابن طبقة رجال الأعمال الثرية التى تظهر فجأة، وتأتى من خارج المشهد السياسى التقليدى وتتحدث عن فساده وضرورة تنظيفه من نخبته التقليدية، وتقديم صورة المرشح الجديد الذى سيواجه فشل النخبة القديمة التى تمثلها كلينتون ومن شابهها.
صورة المرشح القادم من خارج المشهد السياسى تعطى دائما انطباعا بأنه المخلّص من شرور النخبة الحاكمة ومن مساوئ النظام السياسى القائم، وفى أمريكا كانت صورة ترامب رجل الأعمال الصريح والفج وغير السياسى هى التى عبرت عن تيار «ضد النخبة» فى أمريكا.
أما فى مصر، وبعيدا عن الحديث الذى تناقلته الصحف عن أن الكيمياء بين السيسى وترامب تفاعلت بشكل جيد فى لقائهما الوحيد فى نيويورك مؤخرا، إلا أن التشابه بينهما يكمن فى نقطة رئيسية، أن السيسى جاء أيضا معبراً عن تيار «ضد النخبة»، أو التى اعتبرها تيار غالب فى المجتمع المصرى أنها فشلت فى إدارة البلاد عقب ثورة يناير، حتى إن البعض اعتبر أن الشعب هو الذى فشل فى أول اختبار سياسى حر، وأن الحل سيكون فى مجىء حاكم من خارج المشهد السياسى والحزبى، لأنه أدى فى النهاية إلى وصول الإخوان للسلطة وتعثر تجربة التحول الديمقراطى فى مصر.
صحيح أن السيسى قادم من المؤسسة العسكرية ولم يكن له أى تكوين أو خبرة سياسية أو حزبية، واعتبر مثل قطاع واسع من المصريين (تراجع جزئيا الآن) أن أزمة البلاد فى نخبتها وأحزابها، ووجد شواهد كثيرة فى أرض الواقع تؤكد هذه المقولة، وهنا تقاطع مع ترامب فى أنهما قادمان من خارج المشهد السياسى السائد، فى حين اختلفا فى أن الأول تكوينه مدنى والثانى عسكرى.
ورغم تشابه الخطاب السياسى فى بعض جوانبه بين الاثنين، متمثلا فى نفس الموقف الصارم من الإرهاب والإسلاميين ورفض التمييز بين المعتدلين والمتشددين، واعتبار أن كليهما شر مطلق، وأن الإخوان جماعة إرهابية تحرض، ولو بطريقة أنعم، على العنف والإرهاب مثل التكفيريين، كما أن هناك نظرة قريبة فى ملفات الشرق الأوسط مثل سوريا وليبيا اعتبرت أن الهدف الرئيسى هو محاربة الإرهاب فى سوريا وليس إسقاط نظام بشار.
ورغم التشابه فى خطاب التشدد فى الطبعتين المصرية والأمريكية، والكيمياء المتبادلة بين الزعيمين السيسى وترامب، فإن من المؤكد أن الفارق الرئيسى بينهما لا يكمن فى الخطاب إنما فى السياق الذى يتواجد فيه الخطاب المحافظ المتشدد، كما يصفه البعض، أو اليمينى المتطرف، كما يصفه البعض الآخر فى كل بلد.
فقضية اليمين المتطرف أو المحافظ فى أمريكا وأوروبا تختلف عن طبعاتها العربية، فهى تحكم بلاداً لديها مؤسسات مكتملة وقوية وليست أشباه دولة، كما وصف الرئيس السيسى الحال فى مصر، وبالتالى تصبح أمام هذه المؤسسات فى البلاد المتقدمة فرصة لتهذيب خطاب التطرف أو تطويره أو تعديل جوانبه، فنجد سلطة قضائية تنفذ أحكامها فور صدورها، وسلطة تشريعية لا تعتبر أن من إنجازاتها أنها تؤيد الرئيس فى كل قراراته، وهو على عكس الحال فى مصر، فمهما كانت قناعة الرئيس السيسى بأن ما يقوله هو الصواب الكامل، وأن هناك قطاعا لايزال كبيرا من المؤيدين يدعمه، فإن القضية أو المعضلة الأساسية فى حالة مصر لن تكون فى صحة خطابه من عدمها، إنما فى قدرته على إنجاز إصلاح مؤسسى حقيقى يساهم فى نقل البلاد للأمام.
أمريكا وأوروبا تمتلكان ترف نقاش خطاب ترامب واختبار صحته من عدمها، لأن المؤسسات فيها استقرت وراسخة وتعمل بصرامة ورشادة فى نفس الوقت، فى حين أن القضية فى مصر لا تكمن فى صحة قناعات السيسى من عدمها، فحتى لو كانت صحيحة فإن مشكلتنا ستظل فى أمية تصل للثلث، ودولة قانون شبه غائبة، ودستور وأحكام قضاء تطبق حسب الأهواء، وإحساس قطاع واسع من المواطنين بغياب العدالة، مع أزمة اقتصادية طاحنة بسبب سوء الأداء لا المؤامرات الخارجية.
مشاكلنا ليست أساساً فى خلاف التوجهات السياسية، إنما فى البيئة الحاكمة التى يجرى فى ظلها صراع هذه التوجهات.