العالم حولنا واسع تتعدد فيه الرؤى والأفكار، وتتعقد شبكات المصالح وتتغير التحالفات ونحن نراه من ثقب إبرة، فهذا العالم يختزل فى لحظة فيمن قال كلمتين طيبتين فى حق الرئيس، ومن شتم الإخوان واعتبرها جماعة إرهابية، أو من أشاد ببطولات الجيش المصرى فى سيناء، أو من تحدث عن جرأة النظام فى قراراته الاقتصادية وهاجم أعداءه.
لم نحاول أن نقرأ العالم كما هو فنفهم تعقيداته وموقعنا فيه، ولم نفهم النظام السياسى الأمريكى الذى صمم لخدمة المواطن الأمريكى والدفاع عن مصالحه، لا من أجلنا، ونفهم أن علاقتنا بروسيا الحليفة لا يمكن أن تقوى دون أن نعى أن هناك كارثة كان اسمها سقوط الطائرة الروسية وعدم شفافية ووضوح من جانبنا فى التعامل مع الحادث، واختزلنا الأمر فى فقدان السياح الروس وليس الأرواح التى أزهقت.
لقد نظرنا إلى حادث الطائرة الروسية من ثقب إبرة صغير جدا فقلنا: ضاعت السياحة وخسرنا كم مليون دولار وكم ألف سائح، ولكن نسينا فى نفس الوقت أن الطائرة الروسية كان على متنها أسر كاملة من أطفال ونساء ورجال قضوا جميعا دون أن يتذكرهم مسؤول واحد فى مصر بكلمة أو بحفل تأبين، وحتى حين قرر من تبقى من السياسيين فى مصر أن يؤدوا واجب العزاء فى السفارة الروسية بدلا من الحكومة الصامتة نالوا هجوماً إعلامياً فجاً.
والحقيقة أن الصمت الرسمى والإعلامى عن ضحايا الطائرة الروسية وحديثنا فقط عن المؤامرة وحفلات الغناء والرقص التى أشعلناها عقب الحادث مباشرة من أجل عودة السياحة قد جعل «منظرنا» أمام الشعب الروسى وإعلامه مخجلاً، وقطع علاقتنا بالإنسانية مع دولة مازلنا نعتبرها حليفة، ولم يكن غريبا أن تستمر علاقة التحالف العسكرى والمشاريع المشتركة بين البلدين وتغيب السياحة بسبب طريقة تعاملنا مع هذه الحادثة.
ليس مطلوبا أن يكون التضامن مع ضحايا الطائرة الروسية على حساب أزماتنا وضحايا انهيار السياحة، إنما كان فى يدنا أن نقوم بالاثنين مثل كل بلاد الدنيا، لأننا بلد يطلب من العالم كل يوم مساعدته فى حربه ضد الإرهاب، وننسى أو نتناسى أن لدينا واجباً أيضا تجاه هذا العالم فى التضامن مع ضحايا الإرهاب فى بلادهم، ولكن لأن نظرتنا للأسف ضيقة للغاية فبدا أن هدفنا ليس الحفاظ على أرواح البشر، إنما ما يدفعه السياح من العملة الصعبة فخسرنا الاثنين.
ظاهرة أخرى نظرنا لها من ثقب أصغر من الأولى، وهى صعود اليمين المتطرف فى الغرب ونجاح دونالد ترامب فى أمريكا، وهى ظاهرة كتب فيها آلاف المقالات الصحفية ومئات الأبحاث والكتب حول لماذا يتصاعد اليمين المتطرف، وهل يمثل هذا اليمين بطبعاته المختلفة الوجه الآخر لظاهرة الإسلام السياسى عندنا؟ كل ذلك تركناه ولم نر إلا أن تفاعل الكيمياء بين السيسى وترامب كان على خير ما يرام.
سنكتشف سريعا أن ظاهرة التهليل لترامب فى بلد عربى ينتمى لدولة جنوبية كارثة حقيقية، لأننا سنجد رئيساً أكثر خطورة وتشددا على العالم العربى من أى إدارة أخرى، وسيتخذ سياسات معادية لكل المهاجرين، وليس فقط المسلمين، إنما أيضا للمكسيكيين وغيرهم، لأنهم ليسوا جزءا من ثقافة الرجل الأبيض المسيطر فى أمريكا.
التحول الذى حدث فى أمريكا مع ترامب هو عكس التحول الذى حدث مع أوباما، فاستدعى فى الأولى قيم التعصب والتطرف، وفى الثانية قيم التسامح وقبول التنوع، أما نحن ولأننا نرى من ثقب إبرة فلم نشاهد ذلك، إنما رأينا فقط أن أوباما لم يؤيد 30 يونيو (وهو موقف من حقنا أن نعترض عليه)، ولكن فى نفس الوقت نسى بعضنا أننا فى حاجة لاستدعاء قيم العدالة والقانون والتسامح التى حمل ترامب عكسها حتى يتم التعامل مع دولنا ومع ثقافتنا بحد أدنى من الاحترام.
طبيعى أن تجد فى أمريكا الثرية المتقدمة من يبنى مشاريع سياسية تكره الأجانب ويعتبر هؤلاء عبئاً على أمريكا ويرى فى كثرة عدد المهاجرين تهديدا لثقافة الرجل الأبيض، فى حين أنه من الغريب أن تجد عندنا فى بلد مأزوم اقتصاديا متعثر صناعيا وزراعيا ويعتمد على المعونات والقروض أن يتكلم بعض من فيه وكأنهم ترامب، فيكرهون العرب وفقراء الأجانب وأصحاب البشرة السمراء، وكأننا قوة عظمى ثقافتها الوطنية وحضارتها مهددة بسبب كثرة عدد طالبى اللجوء السياسى أو المهاجرين الأجانب الباحثين عن عمل، مثلما هو الحال فى البلاد الصناعية المتقدمة.
مدهش أن تجد من يتمحكون فى ترامب ويرددون خطابه فى بلد مثل مصر، لا علاقة لمشاكله بمشاكل أمريكا، ويتصورون أنه سيدعمنا فى حربنا على الإرهاب، إنما سيكون هو نفسه عامل عدم استقرار فى المنطقة والعالم.
إن العالم كله يقارن بين ظواهر الإسلام السياسى فى بلادنا وبين اليمين المتطرف فى أمريكا وأوروبا، وهناك من يعتبرهما وجهين لعملة واحدة، ونتاجاً لنفس الأزمات، إلا عندنا فهناك من يكره الإخوان وحلفاءهم ويحب ترامب وحلفاءه، وهناك من يدافع عن حق الأمريكيين فى طرد الأجانب (الذين هم شبهه)، وكأن مصر أزماتها بسبب هؤلاء الأجانب.
لقد نظرنا للعالم من ثقب ضيق للغاية فلم نشاهد إلا أموراً ثانوية وهامشية، وأحيانا تافهة، وتركنا الأمور الكبرى لغيرنا يتفاعل معها بعد أن صارت كل هموم مصر مختزلة فى عينى الأمن والإخوان، وغابت الرؤية السياسية والعلم والمهنية لصالح التطبيل والبلطجة والكلام الفارغ، فى وقت لم يعد ينتظر فيه العالم أحداً.