بقلم : عمرو الشوبكي
فى كل المجتمعات هناك قواعد تحكم عمليه الصعود الاقتصادى والمهنى والسياسى، أى ما يسمى فى لغة علم الاجتماع السياسى «الحراك الاجتماعى» ومعايير الترقى الوظيفى أو الصعود فى السلم الطبقى، وهى كلها معايير تنعكس مباشرة على حال المجتمع ودرجة تقدمه.
ويقينا أن البلاد التى تقدمت هى التى وضعت مصفاة مثل التى نراها فى كل بيوتنا أى تلك التى تزيل الشوائب والجراثيم وتمنع صعودها وتحول دون أن يستهلكها «البنى آدمين»، وحين يتم تركيب نفس هذه المصفاة البسيطة على أى منظومة سياسية واجتماعية فستضمن أن هذا المجتمع من خلال قواعد الدستور والقانون يسير فى الاتجاه الصحيح.
يقينا فى بلد متقدم أو فى طريق التقدم أو يرغب أن يكون متقدما يضع مصفاة طبيعية تحدد عمليات الصعود الاجتماعى داخله، ويصبح فيها الثراء مرتبطا بالإنتاج والابتكار والعمل، والمواقع القيادية فى الدولة والأحزاب والمؤسسات العامة والخاصة مختارة للأكفأ والأنزه، وليس صاحب الحظوة أو الرتبة أو الواسطة.
والحقيقة أن مصفاتنا النادرة التى وضعناها فى مصر وبذلنا جهدا كبيرا حتى وجدناها هى المصفاة المعكوسة أى التى تسمح فقط بصعود الشوائب والأتربة والطفيليات. صحيح يفلت منها أحيانا ما هو صحى وصالح للاستهلاك الآدمى ولكنه يعد من النوادر.
لقد اختار نظام مصر السياسى منذ ما يقرب من 40 عاما مصفاة من نوع خاص تقوم على تصعيد كل ما هو سيئ وما هو باهت وما هو عديم الكفاءة، صحيح أن الدولة المصرية فى عصر مبارك ورثت رجالا أكفاء فيكفى قراءة «C.V» د. أحمد فتحى سرور رئيس البرلمان السابق لنكتشف أن الرجل كان وراءه خبرة علمية كبيرة وامتلك مهارة إدارة جلسات البرلمان العاصفة، وأعطى مساحة للمعارضة واختلف واتفق مع الأجهزة الأمنية.
مصفاتنا المعكوسة قاومت فى بعض الفترات بعض الشوائب، حتى أضيف لها مكونات جديدة فلن تعد تكره الأكفاء والمبدعين والمعارضين فقط إنما أصبحت تكره المدنيين وتتهمهم بكل التهم لا لكونهم يساريين بينما نظام حكمنا يمينى مثلما حدث مع الرئيس السادات، ولا لكونهم رأسماليين فى حين أن نظام الحكم اشتراكى كما جرى فى عهد عبدالناصر إنما لأنهم يفكرون وعقلاء ولهم علاقة بالعلم. وصارت مصفاتنا الجهنمية حريصة على أن تخرج كل بلطجى، وصعّدت كل مطبل وكل معدوم العقل حتى ليبدو المشهد وكأن المشكلة فى الشعب الذى لا يعرف أن يختار أو الشعب «النمرود» أو غير المهيأ للديمقراطية والجاهل حتى ننسى أن الأزمة الحقيقية فيمن وضع المصفاة التى تقلب القواعد والقوانين حتى يبدو العيب فينا وليس فيمن يحكمنا.
يقينا هناك مشكلات مجتمعية فى بلد نسبة الأمية فيه تصل للثلث وهناك تحديات كثيرة تواجه أى عملية تحول ديمقراطى فى بلد مثل مصر اعتادت دولته العميقة أن تحكمه حتى فى مرحلته شبه الليبرالية، فلم يسمح لحزب الوفد (حزب الأغلبية الشعبية) أن يحكم إلا 6 سنوات غير متصلة فى الفترة من 1919 وحتى 1952 وعقب ثورة يوليو حكمت الدولة بشكل مباشر من خلال الضباط الأحرار الذين وضعوا مصفاة تقوم على الإيمان بنظام الحزب الواحد واشتراكية عبدالناصر والعداء للاستعمار وألزمت من يرغب فى الصعود أو المرور عبر هذه المصفاة أن يؤمن بهذه القيم والمبادئ السياسية، وكان مصير كثير ممن عارضوها من الإخوان والشيوعيين والليبراليين هو السجن.
وفى عهد السادات تغيرت المصفاة وآمن الرجل بالانفتاح الاقتصادى وتحالف مع أمريكا واعتمد الطريق السلمى لحل الصراع العربى الإسرائيلى فنجح وأخفق ولكنه قال منذ البداية هذه هى المصفاة التى لن يمر منها إلا من هو مؤمن بهذه الأفكار وطبقها عمليا حين حل مجلس الشعب فى 1979 عقب معارضة 13 نائبا لاتفاقية كامب دافيد وأجرى انتخابات جديدة اختار فيها معارضيه (سماها المعارضة الشريفة) وأسقط فيها بالتزوير كل من عارضوه فى البرلمان السابق ما عدا النائب الراحل العظيم المستشار ممتاز نصار الذى حمى أهله الصناديق بالسلاح فى صعيد مصر. مصفاتنا السحرية وجدت منذ عقود وكانت فى أغلب الأحيان تقوم على أن المؤيد جاهل أو كفؤ، نزيه أو فاسد هو الذى يسمح له بالصعود فالمهم أن يكون مؤيدا مبايعا أما الآن فإن مصفاتنا لم تكتف بمعيار التأييد الخالد كمصوغ وحيد للصعود السياسى والمهنى إنما أصرت ألا تسمح لأى مؤيد فاهم أو عاقل أو نزيه أو نقدى أن ينطق بحرف فلابد أن تكون باهتا بلطجيا بذيئا حتى يسمح لك دون غيرك أن تعيث فى الأرض فسادا دون قيد أو حساب.
مصفاتنا المعكوسة تدهور حالها كثيرة وصارت عبئا على كل شىء ولا يفهم كثير من المصريين لماذا الإصرار على عدم عدلها قليلا حتى تستقيم كثير من الأمور فى الاقتصاد قبل السياسة.. راجعوا وعدلوا قبل فوات الأوان.