فى مثل هذا اليوم من 46 عاماً رحل جمال عبدالناصر، مُخلفا حبا وتأييدا لم يَنَلْه زعيم عربى من قبل، وترك أيضا جدلا كبيرا حول سياساته، بعد أن تعرض طوال عقد السبعينيات لحملة منظمة لتشويهه شخصا وتجربة، وهو بلا شك الزعيم الأنزه والأكثر استقامة فى تاريخ مصر المعاصر، حتى لو كانت تجربته محل نقد وخلاف.
والحقيقة أن وجدان الشعب المصرى (والشعوب العربية فى حالة عبدالناصر) لم يرتبط تاريخيا إلا بتجربتين، الأولى تجربة حزب الوفد قبل ثورة يوليو، وتجربة جمال عبدالناصر بعدها، وهو ما جعل قضية عبدالناصر أكبر من النقاش حول إيجابياته وسلبياته، ما أصاب فيه وما أخطأ، لتصل أيضا إلى سر بقائه وحضوره، رغم مرور ما يقرب من نصف قرن على رحيله.
قوة عبدالناصر فى ثلاثة عناصر رئيسية، أولها أن الرجل كان بطل عصره الأول بلا منازع، وكل مَن حاول أن يستنسخ عبدالناصر من صدام حسين إلى معمر القذافى أو غيرهما انتهت تجاربه بفشل مدوٍّ، فالرجل أتى من سياق مرحلة عُرفت بـ«عصر التحرر الوطنى»، كانت فيها نظم العالم الثالث كلها (باستثناء الهند) تتشابه فى مضمونها وخطابها مع نظام عبدالناصر، فاستخدم أدوات العصر المتاحة، وتبنى اشتراكية حكمت ثلث بلاد العالم، وعارضت النظم الرأسمالية فى الثلثين الباقيين من أوروبا إلى أمريكا إلى أفريقيا.
سلطوية نظام عبدالناصر وثورية نظامه وغياب الديمقراطية أمور واضحة، ولكن قابلتها فى نفس الوقت قدرة استثنائية على الإنجاز وتغيير الواقع الاجتماعى والسياسى فى عصر كان يمكن فيه للقائد الفرد وللحزب الواحد أن يُحدث هذا التغيير، فما بالنا أن البعض يتحدث الآن وفقط عن القائد الفرد دون أى ظهير حزبى وسياسى أو حتى شعبى؟
أما العنصر الثانى فهو الحالة أو التكوين الاستثنائى الذى شكل وعى وخبرة عبدالناصر، فهو نظريا رجل عسكرى (ذكر لى أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل أنه قال لعبدالناصر مرة بعد ثورة يوليو إنه أكيد كان ضابطا فاشلا من كثرة أبيات الشعر التى كان يتلوها عليه ويحفظها عن ظهر قلب)، ولكنه واقعيا وعمليا هو رجل سياسى وثورى بامتياز.
والحقيقة أن قدرات عبدالناصر السياسية وظروف عصره هى التى سمحت له بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار وهو فى بداية الثلاثينيات من عمره، ضاربا بعرض الحائط القواعد المتعارف عليها فى أى مؤسسة عسكرية منضبطة، لا تقبل، بل لا تتسامح مع أى تنظيمات سرية تخترق صفوفها، وتعامل الرجل مع قوى سياسية متعددة من شيوعيين وليبراليين وإخوان مسلمين، وقام بثورة ضد النظام الملكى القائم، من خلال بناء تنظيم سياسى ثورى، نجح فى تحريك وحدات من الجيش، وليس قائدا عسكريا أصدر أوامره لجنوده بتنفيذ انقلاب عسكرى.
ولو ظهر عبدالناصر وتنظيمه مرة أخرى فى الجيش المصرى لكان قد أُلقى القبض عليه وحوكم محاكمة عسكرية فورية، ليس لأن الجيش هنا أصبح أكثر قسوة من جيش الأربعينيات، إنما لأن مفهوم الجيش المهنى المنضبط «الخالى» من السياسة أصبح هو معيار نجاح الجيوش فى عصرنا الحالى، ولم يكن هذا هو الحال فى عصر عبدالناصر.
صحيح أن هناك عقدة مازال يحملها البعض تجاه كل مَن خرج من المؤسسة العسكرية، وهى فى الحقيقة أقرب للعقدة النفسية، ولا علاقة لها بالنقاش السياسى، فهى مازالت تعتبر عبدالناصر «عسكر»، حتى لو كان ابن التنظيمات السياسية، وحتى لو أسقط النظام الملكى، وتمرد على قيادة الجيش وهو فى الرابعة والثلاثين من عمره، وامتلك خبرة سياسية واسعة، وتصبح خلفيته العسكرية مصدر فخر وشرف وليست عيبا فى ذاتها.
أما العنصر الثالث وراء قوته فهو أن عبدالناصر كان حقيقيا وليس مزيفا، بمعنى أن كل معاركه التى أصاب وأخطأ فيها كانت معارك حقيقية، فهو لم يرفض إعطاء الاستقلال للسودان، فى الوقت الذى يناضل فيه من أجل تحرر بلاده وكل دول العالم الثالث من الاستعمار، فيتحول إلى سلطة احتلال لكى يُرضى مَن يتباكى على إعطائه الاستقلال للسودان، ولم يفرض الوحدة على سوريا بالقوة ويكرر مأساة صدام حسين فى الكويت، لأنه آمن بأن الوحدة خيار شعبى، فتقبل الانقلاب على الوحدة حتى لا يتقاتل المصرى والسورى. وعبدالناصر لم تكن ثوريته مستمدة من خطب الكلام الفارغ، بل هو أول مَن عرَّف الثورة بكلام «غير حنجورى» حين قال إنها: «علم تغيير المجتمع».
عبدالناصر الحقيقى هُزم فى 67 وهو يحارب إسرائيل وليس ليبيا أو السودان وتحمل المسؤولية واستقال، وعبدالناصر الحقيقى بنى أكبر حركة تصنيع فى تاريخ مصر، وبنى مشروع مصر الأعظم، وهو السد العالى، وأحدث ثورة حقيقية وتطويرا حقيقيا فى التعليم والثقافة والزراعة، وحقق العدالة الاجتماعية، وكانت رموزه فى الصحافة والإعلام محمد حسنين هيكل وغيره وليس رجال الشتائم والتسريبات.
لم يقل عبدالناصر إن الغرب يتآمر علينا، وفى نفس الوقت سعى للحصول على قرض صندوق النقد الدولى بدعم غربى، ولا يمكن أن يقارن البعض مؤامرات الغرب ضدنا- (التى تعنى فى الأساس خططا وسياسات)، عقب تأميم عبدالناصر قناة السويس، ثم الحصار والعدوان الثلاثى على مصر- بضغوط الغرب والشرق لمعرفة مَن قتل الطالب الإيطالى ريجينى وقضية تأمين مطاراتنا ونسبة الإرجوت فى القمح وغيرها الكثير؟
إن استدعاء قضية النضال ضد الغرب فى سياق لا علاقة له بالنضال، إنما بالأداء والحرفية والسياسات مثلما يحدث الآن، يدل على أننا لسنا على الطريق الصحيح، فالشعب المصرى ضحى مع عبدالناصر، وتحمل الحصار والحروب من أجل نَيْل استقلاله وحريته مثله مثل كل الشعوب التى عانت من نير الاستعمار، أما الآن فالناس ليست على استعداد للتضحية أو دفع ثمن حصار من أجل فشل الحكومة أو التخبط فى السياسات أو سوء الأداء.
لا أحد يدرس تاريخ العالم ولا شعاراته فى عصر عبدالناصر إلا ويكتشف أن قوة عبدالناصر فى أنه كان ابن هذا العصر، وامتلك بعبقرية أدوات عصره، حتى لو أخطأ فى أشياء كثيرة، إلا أنه سيظل العلامة الكبرى فى تاريخنا المعاصر غير القابلة للاستنساخ، ونجاحنا فى العصر الحالى متوقف على أن نعرف فى أى عصر نعيش، وأى تحديات نواجه.