فاز دونالد ترامب فى الانتخابات الأميركية، وأصبح الرئيس رقم 45 فى تاريخ أميركا، بعد أن حصل على 289 صوتا من أصوات المجمع الانتخابى، فى مقابل 218 لهيلارى كلينتون، بعد أن فاز تقريبا فى كل الولايات المتأرجحة، ليحقق تحولا كبيرا فى تاريخ أميركا، يمكن وصفه بأنه عكس ما شهدته أمريكا منذ 8 سنوات حين فاز باراك أوباما بانتخابات الرئاسة.
والحقيقة أن انتخاب ترامب مثَّل عكس القيم التى انتخبت أوباما، كأول رئيس فى تاريخ أمريكا من أصول أفريقية، بكل ما يمثله ذلك من «تحول ثورى» فى التاريخ الأمريكى، فى بلد كان لا يسمح للأمريكيين الأفارقة بأن يصوتوا من الأساس حتى عام 1968.
ترامب، الذى مثلت حملته وخطابه تقريبا عكس تجربة أوباما، هو رجل الأعمال الذى تُقدر ثروته بما يقرب من 5 مليارات دولار، وقام بإنفاق مبالغ طائلة على حملته، ودعمه كبار أثرياء أمريكا، على عكس أوباما، الذى لأول مرة فى تاريخ الانتخابات الأمريكية (وعلى عكس حتى حملة كلينتون) يعتمد أساسا فى تمويل حملته الانتخابية على التبرعات الصغيرة، التى بدأت بدولار واحد.
يقينا فوز أوباما استفز قطاعا من البيض، وجاءت أخطاء كثيرة لإدارته لتعمق الفارق بين القيم المدنية التى دفعت بأغلب الأمريكيين إلى انتخابه، وبين القيم المتعصبة والمتطرفة التى دفعت إلى انتخاب ترامب.
صحيح أن ظاهرة القادم من خارج المشهد السياسى التقليدى تكررت فى أمريكا وفى مجتمعات كثيرة، فيقينا أن المرشح الديمقراطى، الذى خسر السباق داخل الحزب الديمقراطى، «بيرنى ساندر»، كان قادما أيضا من خارج المؤسسات التقليدية الأمريكية، ومثَّل الخطاب العكسى «الأصلى» لمشروع ترامب، وليس «كلينتون»، الفائزة فى انتخابات الحزب الديمقراطى، والخاسرة فى الانتخابات الرئاسية، التى كانت ابنة المؤسسة التقليدية الحاكمة بامتياز.
هيلارى كلينتون مثلت الاستمرارية والجمود والنخبة المدنية، التى نسيت الريف وتعالت فى بعض الأحيان على جهل ترامب، وحتى لو أن كل ما ذكرته عنه حقيقى، فإنها نسيت أو تناست أن هذا استفز قطاعا ليس بالقليل من الأمريكيين «البسطاء» ودفعهم إلى التصويت للرجل.
والمؤكد أيضا أن فكرة تكتل كل الأصول العرقية (أو فى غالبيتها الساحقة) خلف «كلينتون» من عرب ومسلمين وأفارقة وإسبان استفزت الرجل الأبيض الأمريكى، وجعلت قطاعا واسعا منه يصوت بكثافة لـ«ترامب»، على عكس ما جرى مع أوباما، حيث صوَّت 93% من الأمريكيين الأفارقة لصالحه، ولم يتكتل خلفه باقى العرقيات، وصاغ خطابه فى قالب مدنى أمريكى أيده كثير من الأمريكيين البيض، على خلاف ما فعلته «كلينتون»، التى دعمتها كل الأقليات، فاعتبرت الغالبية البيضاء أنها هى- وليس ترامب- التى تُقسم أمريكا وتُفقدها هويتها.
قوة ترامب ليست فقط فى خطابه المتطرف أو جمهور التطرف فى أمريكا، إنما فى كونه أيضا قادما من خارج المشهد السياسى التقليدى الأمريكى، ونجح فى أن يسوق نفسه باعتباره ثائرا على منظومة الحكم الفاسدة ومتمردا على مؤسساتها، وأن منافِسته هى جزء منها.
وسوَّق الرجل انتخابيا أنه مُعادٍ للطبقة السياسية الحاكمة، وأنه (رغم ثرائه الفاحش والفج) مدافع عن المُهَمَّشين وأهل الريف، فى مواجهة مَن سيطروا على الحياة السياسية الأمريكية منذ عقود، وانتموا للحزبين الكبيرين الديمقراطى والجمهورى، فى حين أن الرجل- حتى لو انتمى شكليا للحزب الجمهورى- فهو ابن طبقة رجال الأعمال الثرية التى تظهر فجأة، وتأتى من خارج المشهد السياسى التقليدى، وتتحدث عن فساده وضرورة تنظيفه من نخبته التقليدية وتقديم صورة المرشح الجديد، الذى سيواجه فشل النخبة القديمة التى تمثلها «كلينتون» ومَن شابهها.
صورة المرشح القادم من خارج المشهد السياسى تعطى دائما انطباعا بأنه المخلص من شرور النخبة الحاكمة ومن مساوئ النظام السياسى القائم، وفى أمريكا كانت صورة ترامب، رجل الأعمال الصريح والفج وغير السياسى، هى التى عبرت عن تيار «ضد النخبة» فى أمريكا، ونجح.
يقينا صورة ترامب المرشح ستختلف عن صورة ترامب الرئيس، والفارق بين ترامب فى بلد مؤسسات وبين ترامب فى بلد بلا مؤسسات أن الأول عادة ما تستطيع المؤسسات أن تهذب خطابه المتطرف وتُعدِّل كثيرا من جوانبه، فسنجد سلطة قضائية تنفذ أحكامها فور صدورها، وسلطة تشريعية لا تعتبر أن من إنجازاتها أنها تؤيد الرئيس فى كل قراراته، بجانب وجود رأى عام قوى وصحافة حرة.
كل السعداء بفوز ترامب فى مصر على الأرجح لن يهنأوا كثيرا، لأنهم سيجدون ترامب الرئيس شخصا آخر غير المرشح، وعلينا أن نتذكر كيف تحول جورج بوش من رئيس دعمته كل النظم العربية، وفرحت بقدومه، وبعد فترة أصبح من أكثر الرؤساء الأمريكيين تدخلا فى الشؤون الداخلية للدول العربية، وعلى رأسها مصر، وتحول شهر العسل القصير إلى مواجهات معلنة وفتور بين البلدين.
سيبقى فى النهاية أن ترامب انتُخب فى بلد مؤسسات، فى حين أن التحدى الذى تواجهه بلاد مثل بلادنا، التى فيها مَن يحب الرجل ويكرهه، هو فى إعادة بناء وإصلاح مؤسساتها حتى تتحول إلى دول حقيقية وليس أشباه دول، قبل أن تهلل لـ«ترامب» أو تكتئب لقدومه.