عاد رجال مبارك إلى الساحة السياسية، وصالوا وجالوا فى وسائل الإعلام، وقبل الحديث عن العودة علينا أن نتساءل أولاً: هل هم حقا ذهبوا حتى يعودوا، أم أنهم فى واقع الأمر غيَّروا من أماكنهم وبقى البلد فى مكانه، بل ربما يكون قد ذهب إلى مكان أسوأ؟
والحقيقة أن النقاش حول عودة رجال مبارك مرة أخرى إلى الساحة السياسية قضية تخص المستقبل أكثر من الماضى، فالمشكلة ليست فى شخوص النظام القديم إنما فى منظومة النظام القديم الباقية، وأن أخطاء التعامل مع رجال مبارك غير المدانين عقب ثورة يناير ساهمت فى الوصول لنقطة لم يعد فيها لرجال مبارك ولا لرجال الثورة ولا لرجال الإصلاح أى دور، وفرغت الحياة السياسية والمجال العام بشكل كامل من أى حديث عاقل أو مهنى فى السياسة أو الاقتصاد، وامتلأ المجال بالكلام الفارغ ونظريات المؤامرة البليدة ورموز الفشل الإعلامى.
ويمكن القول إن ما جرى فى مصر بعد ثورة 25 يناير كان سقوطا لرأس النظام وليس للنظام ككل، وهى خطوة إيجابية وعظيمة أن يفرض الشعب على رئيس بقى فى السلطة 30 عاما أن يتنحى عبر إرادة شعب لا انقلاب قصر.
والحقيقة أن تلك كانت رسالة يمكن أن يتوافق عليها تيار واسع داخل نظام مبارك نفسه وعدد من القيادات الإصلاحية داخل دولته بأن يقولوا كفى لمبارك بعد هذه المدة الطويلة، وأن معظم مَن تحدثوا عقب ثورة يناير من رجال عصر مبارك غير الفاسدين اعترفوا بأخطاء النظام السابق، وثمَّنوا ثورة يناير، ودافع بعضهم عنها وكأنهم كانوا صانعيها، ولم يصفوها بـ«المؤامرة»، وأقروا بأن انتخابات 2010 كانت مزورة، وأنه كان هناك فساد للركب، وبحث كثيرون فى دفاترهم القديمة عن تصريح شارد عارضوا فيه ولو همسا بعض سياسات مبارك.
البلد عقب يناير كان مهيأً للبدء فى مسار إصلاحى، فى وجود حزب وطنى «معدل»، وفى وجود دستور 71 «معدل»، ومع رئيس جديد من داخل رجال أو نظام مبارك، وفى نفس الوقت من خارج مشروع التوريث، وانتخابات برلمانية جديدة، ولكن للأسف دخل فى مرحلة الفعاليات الثورية والصوت الاحتجاجى، وتجاهل أن المرحلة الأساسية فى نجاح أى تجربة تغيير تتوقف فى القدرة على بناء نظام جديد، يفكك بشكل تدريجى مرتكزات النظام القديم لا أن ينتقم من شخوصه.
والحقيقة أن هذا المسار كانت ترجمته العملية أن الحزب الوطنى مستمر بعد أن أبعد القيادات الفاسدة التى زورت انتخابات 2010، وكانت سببا فى ثورة يناير، وأنه سيضم بشكل أساسى رجالات مبارك من طبعة «حزب الدولة»، الذين اعتادوا أن ينضموا إلى أى تنظيم أو حزب سياسى تشكله منذ الاتحاد الاشتراكى، ثم حزب مصر، وحتى الحزب الوطنى، بجانب شبكات المصالح التقليدية المعروفة فى الريف والقرى.
والسؤال: هل كان أفضل لمصر أن يكون هناك حزب وطنى، يقوده حسام بدراوى أو غيره، ويحصل بحد أقصى على 30% فى انتخابات برلمانية نزيهة، ولا ينشغل الناس بحله وعزل كل مَن فيه ولا إسقاط وزارة شفيق باعتبارها من مخلفات عهد مبارك، لصالح الانشغال ببناء بديل حزبى وسياسى قادر على المنافسة وتقديم سياسات بديلة لرجال مبارك وحزبه الوطنى بدلا من الانشغال بخطاب الثورة الدائمة والمطالبة بإسقاط كل شىء دون امتلاك بديل لأى شىء؟
لقد اكتشفنا بعد استقالة حكومة شفيق أن ما يقرب من نصف الشعب المصرى صوَّت له- رغم أنه كان رئيس وزراء الرئيس الذى ثاروا ضده، كرد فعل على الفوضى الثورية ورفض الإخوان- باعتباره رجل الدولة والانضباط قبل أن يكون من رجال مبارك.
والحقيقة أن البعض تصور أن رجال مبارك عادوا، رغم أن مَا ذهب هو أسماؤهم (الحزب الوطنى، دولة مبارك، برلمان مبارك... إلخ)، فى حين أن أغلب أعضاء البرلمان الحالى من أعضاء الحزب الوطنى السابق، وأن الاقتصاد يُدار بنفس منطق نظام مبارك ولكن بدون رجال مبارك أو بالأحرى برجال أقل كفاءة (بكثير) من وزراء مبارك، حتى بدا الأمر وكأن رجال مبارك نقطة ضوء فى ظل عتمة اقتصادية وسياسية.
إن خطاب مَن طفوا على السطح من رجال مبارك مؤخرا هو خطاب الفشل الكامل، وهو على عكس ما قاله آخرون من رجال مبارك أيضا (أو هكذا وُصفوا) ممن كانوا أعضاء فى الحزب الوطنى أو وزراء سابقين لم تُدِنْهم المحاكم، واعترفوا بأخطاء نظامهم ورئيسهم مبارك، على عكس المنتقمين الجدد، الذين اعتبروا ثورة يناير مؤامرة صبت فى صالح قطر وتركيا (تفرد حسين سالم بذكر هاتين الدولتين وليس أمريكا)، ونسوا أو تناسوا أن مشاكل هذا القطاع من رجال مبارك ليست مع شباب الثورة المصرية إنما مع مؤسسات الدولة المصرية (بما فيها دولة مبارك)، أى القضاء المصرى والكسب غير المشروع، وهى من مؤسسات دولتنا العريقة المستمرة قبل ثورة يناير وبعدها.
رجال مبارك غير الفاسدين- الذين لم يتورطوا فى جرائم تزوير ولا فساد ولا إفساد، ولم تُدِنْهم أحكام القضاء- هم جزء من المشهد السياسى المصرى، سواء أحببناهم أم كرهناهم، والخطأ كان فى عدم وضع إطار سياسى ودستورى إصلاحى منذ البداية يستوعب غير الفاسدين منهم.
رجال مبارك معظمهم جزء من الماضى، وكوادر الصفين الثانى والثالث منهم هم جزء من المشهد السياسى والبرلمانى الحالى، والتحدى هو فى بناء منظومة جديدة قادرة على أن تستوعب غير الفاسدين وغير المجرمين من رجال أى عصر، لا أن تخاف من مقال لأحمد عز أو ظهور لجمال مبارك، فهذا دليل ضعف وهشاشة.
المصريون يبحثون عن منظومة جديدة، دولة قانون ودستور تُطبق على الجميع، عندها لن نخشى من رجال مبارك ولا السادات ولا عبدالناصر ولا من شباب ثورة يناير، وسيكون البلد قادرا على التقدم ولو خطوة للأمام.