بقلم:عمرو الشوبكي
تغيرت العلمانية التركية، ولم تعد هي نفسها العلمانية المتشددة التي طُبقت قبل 100 عام، فقد قبلت بحضور الدين في المجال العام وليس المجال السياسى، وقبلت بمظاهره وطقوسه على المستوى الثقافى داخل المجتمع وعلى المستوى السلوكى بين الأفراد.
وقد بدأت رحلة الجمهورية العلمانية التركية في عام ١٩٢٣، أي بعد عام من إلغاء مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية، حيث أسس الرجل منظومة قيم جديدة تبنّت الاستقلال الوطنى وأسست الجمهورية العلمانية، ولم يكن فيها أتاتورك مجرد مصلح وزعيم سياسى كبير، إنما أيضًا بطل تحرر وطنى للأمة كلها.
وقد وضع أتاتورك دستورًا جديدًا للبلاد في عام ١٩٢٤ أعطى لنفسه الحق في تبوؤ منصب رئاسة الجمهورية ثلاث فترات أخرى (1927، 1931، 1935)، وذلك بعد أن اختير من قِبَل «مجلس الأمة التركى الكبير» رئيسًا في أكتوبر 1923.
ومنذ ذلك الوقت تبلور المشروع العلمانى والسياسى في البلاد، والذى قام على الاستقلال الوطنى ورفض كل صور الهيمنة والتدخل الأجنبى في القرار التركى، وسيطرت الدولة على المدارس، وألغت التعليم الدينى وتطبيق الشريعة، وحظرت تعدد الزوجات، كما منعت النساء من ارتداء الحجاب، وجعلت الأذان باللغة التركية، ولكن في نفس الوقت أعطت الجمهورية الناشئة المرأة حقوقًا متساوية، بما في ذلك حق التصويت وشغل المناصب الحكومية، كما نفذ سياسة التأميم في الاقتصاد، وسياسة التتريك ضد الأقليات العرقية، وقام بتغيير أسماء المدن والأماكن إلى اللغة التركية مثل القسطنطينية، التي أصبحت اسطنبول، وسميرنا أصبحت إزمير، وأنغورا أصبحت أنقرة.
ورفع أتاتورك شعار «السهام الستة»، الذي طرح فيه برنامجه، وهو يُذكرنا بالمبادئ الستة التي رفعتها ثورة يوليو ١٩٥٢ في مصر، وعمّق الرجل توجهاته العلمانية في عام ١٩٢٧ حين قرر حذف كافة النصوص الدينية من المادة السادسة والعشرين من دستور ١٩٢٤، والتى تنص على أن الإسلام هو دين الدولة.
والمؤكد أن بدايات التجربة العلمانية التركية كانت إقصائية، وفرضت نموذجًا حداثيًّا علمانيًّا يستبعد الدين من المجال العام وليس فقط المجال السياسى، ولكنها في نفس الوقت فصلت الدين عن السياسة، وهى قيمة ظلت باقية، وحمَت تركيا من مصائر سوداء عرفتها دول أخرى.
يقينًا، محاولات الخروج عن هذه العلمانية الإقصائية بدأت على يد زعماء جاءوا من التيار العلمانى الديمقراطى نفسه: الأولى كانت على يد عدنان مندريس في خمسينيات القرن الماضى، ولم يقبلها العلمانيون المتشددون، وانقلب عليها الجيش عام 1960، أما الثانية فجاءت في ثمانينيات القرن الماضى على يد تورجت أوزال العلمانى المتصالح مع الدين، والذى أجرى إصلاحات اقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة، وأخيرًا استكمل أردوجان ما قام به هؤلاء الزعماء في تحويل العلمانية التركية إلى نظام يقبل التنوع ويحترم المتدينين وغير المتدينين، ويتمسك بفصل الدين عن المجال السياسى وليس المجال العام.