بقلم : عمرو الشوبكي
لم يكن «اشتباك» البيت الأبيض بين الرئيس ترامب ونظيرة الأوكرانى «زيلينسكى» مجرد اشتباك شكلى أو تجاوز لفظى، إنما كان تحولا فى المضمون بتكريس الرئيس الأمريكى لمسألتين فى سياساته الخارجية، وهما الصفقات التجارية والانحياز للأقوى.
والحقيقة أن «عالم ترامب» لا يرى أن هناك قيما مشتركة تجمع أمريكا وأوروبا قائمة على الليبرالية وحرية التجارة ودولة القانون، إنما أن أمريكا تدفع لحلف الناتو أموالا كثيرة لحماية أوروبا، وهو ما يجب تعديله. وهنا يسقط ترامب أحد الأسس التى يقوم عليها التحالف الغربى وهو «تحالف النماذج» الذى روّج، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لمنظومة قيم غربية مشتركة وتحالفات مستقرة وشراكات اقتصادية بين أوروبا وأمريكا.
عالم ترامب الجديد يمارس تنمرا على الدول الأضعف، ويعتبر أن الربح أهم من أى تحالف استراتيجى لا يجلب المال المباشر «الكاش»، وأن الانحياز للأقوى «سلوك ترامبى» واضح، فقد «التهم» الرئيس الأوكرانى لأنه يعلم أنه فى وضع ضعيف، لكنه لم يتصرف مع الرئيس الفرنسى الذى قاطعة واختلف معه كما فعل مع الأوكرانى، لأنه يحسب جيدا سقف كلامه حين يتعامل مع رئيس دولة قوية.
انحياز ترامب اللامحدود لإسرائيل هو انحياز للرواية الأقوى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، فالرجل لم يهتم بمعرفة ماذا يعنى الاحتلال فى تاريخ الشعوب ولا قيمة التحرر بالنسبة للشعوب المحتلة، إنما رأى القضية الفلسطينية فرصة لإتمام صفقة عقارية فى غزة وتهجير سكانها.
عالم ترامب ليس فقط العالم الخارجى إنما أسس أيضا لعالمه الخاص فى الداخل الأمريكى، وشهدنا نخبة جديدة تختلف عن النخب السابقة، من إيلون ماسك، إلى نائب الرئيس، إلى الصحفى الذى كرر بشكل فج ما قاله ترامب لزيلينسكى عن زيه الذى لم يحترم فيه البيت الأبيض، وهو سؤال يعكس مستوى من الجهل بتاريخ أوروبا نفسها، وكيف أن زعيم مثل تشرشل ظل يرتدى بدلة بلون واحد عرفت باسم «بدلة صفارة الإنذار» تضامنا مع شعبه فى حربه ضد النازى، واستقبله الرئيس الأمريكى روزفلت دون أى مشاكل.
مفاهيم مثل المهنية ونخب التعليم الرفيع والإدارة العليا داخل أمريكا وخارجها لا يقبلها ترامب، والطلاب الأمريكيون ومعهم طلاب من مختلف دول العالم يتعلمون فى الجامعات الأمريكية الكبرى، انشغل ترامب بمحاسبة من دعموا القضية الفلسطينية ولم يهتم بما تعلموه من تعليم رفيع، ولا كون الأجانب منهم سيعودون لبلادهم وهم ممتنون لما تعلموه فى أمريكا، كما تجاهل هذا الإنجاز للنموذج الأمريكى نفسه بمؤسساته وجامعاته، لأنه فى الحقيقة يراهن على نخبة جديدة أقل تعليما بكثير وتكره العلم والإدارة الحديثة وبدأت بالفعل فى العبث فى كثير من مؤسسات الإدارة الأمريكية.
عالم ترامب يخوض معركة صعبة فى الداخل الأمريكى لفرض نخب وممارسات جديدة مازالت تقاومها المؤسسات الأمريكية، ونتيجتها ستتضح فى المستقبل المنظور.