فى كل مرحلة من تاريخ مصر هناك الهتيفة، والملكيون أكثر من الملك، وحملة المباخر من أصحاب الصوت العالى، وهؤلاء هم أسهل من يتقلب وينتقل من موقع إلى آخر بسلاسة يحسدون عليها، فهم الذين هتفوا «بالروح والدم نفديك يا جمال»، وهم أول من شتموا الرجل حين اكتشفوا أن دفة الرئيس السادات تغيرت نحو وجهة أخرى.
والحقيقة أن رحلة مصر مع الصوت العالى مستمرة منذ عقود طويلة، وأن تحول الهتيفة من موقف إلى نقيضه مسألة متكررة فى تاريخنا المعاصر، فهناك من أيدوا مبارك حتى النخاع، وتحولوا إلى ثوار بعد أن تصوروا أن حكم ميدان التحرير قادم «فعاموا» على عوم الخطاب الثورى، ثم عادوا وأطلقوا لحيتهم مع حكم الإخوان، وعادوا مرة ثالثة وهتفوا «تسلم الأيادى» بعد انتخاب السيسى رئيسا.
ويبقى من المفيد فى الوقت الحالى الحذر من هتيفة «الموت للإخوان» الذين ينعتونهم بأقسى العبارات، فهؤلاء هم أكثر المتحولين فى تاريخنا المعاصر: من يسقط إلى عاش.
والحقيقة أن علاقة النظم السياسية بالإخوان هى بالأساس علاقة صراعية، ولكنها لم تخلُ من صفقات وصلح، فقد عادوا فى عهد الرئيس السادات للحياة السياسية والنقابية والطلابية فى أعقاب مواجهات الفترة الناصرية وفق شروطهم، وظلوا جماعة دينية دعوية تمارس كل الأنشطة السياسية وغير السياسية، ولم تقم الدولة بفرض الفصل المطلوب بين الجماعة الدينية والنشاط السياسى، وظلت معضلة الجماعة فى تنظيمها العقائدى الذى عاد بكل سلاسة فى بداية السبعينيات بعد مواجهات الستينيات دون أى تغيير.
والواقع أن معضلة الجماعة الأساسية فى تنظيمها الدينى، الذى ظل مصدر قوتها وضعفها ودليلا عمليا على فشلها السياسى على مدار ما يقرب من 90 عاما، فالجماعة تعتبر نفسها جماعة ربانية، وأعضاءها فى وضع متفوق عن باقى أعضاء المجتمع من خلق الله، وتحدث سيد قطب عن «الاستعلاء الإيمانى»، وعن أن عضو الجماعة فى مرتبة أعلى من المواطن الذى لم «يهتدِ» إلى طريق الإخوان، وهى فى النهاية جماعة تتمسك حتى هذه اللحظة بما سمته شمولية الدعوة، وأن السياسة مجرد جزء أو ذراع لهذه الدعوة.
وهذا ما صرح به قادة الجماعة مؤخرا، تعليقا على ما جرى فى تونس من فصل بين الأنشطة الدعوية لحركة النهضة والنشاط السياسى، وذلك برفض هذا الفصل، والتمسك بتنظيم الجماعة والتأكيد على أن حزب الحرية والعدالة أسسه جماعة الإخوان المسلمين التى تمثل الأصل، والحزب مجرد ذراع.
إن معضلة مصر التاريخية منذ عام 1928 (تاريخ تأسيس تنظيم الإخوان) وحتى الآن تتعلق ببنية هذا التنظيم، فهناك ما يقرب من 100 ألف عضو عامل (لا مليون ولا نصف مليون كما يردد البعض بسطحية لافتة) من أعضاء الأسر والشعب المختلفة ومكتب شورى الجماعة، ومن يدفعون 7% من دخولهم لصالح التنظيم، وتربوا على الانفصال عن المجتمع وتاريخه الوطنى، وشمتوا دون غيرهم فى شهداء الشرطة والجيش، وأيضا فى المدنيين والفنانين والأدباء الذين يخالفونهم فى الرأى، وحتى هزائمنا الحربية أو الكروية كانت محل شماتة التنظيم دون غيره.
والحقيقة أن معضلة مصر وكل النظم السياسية، وليس فقط النظام الحالى، كانت فى العلاقة مع هذا التنظيم، فلو كنت ضد مبارك والسيسى فالإخوان واجهوا النظامين الملكى والناصرى بالدماء والعنف، ولو كنت ضد كل هؤلاء فالإخوان أيضا واجهوا نظام السادات بعد أن أخرجهم من السجون.
الإخوان ليسوا شياطين ولا هم قادمون من كوكب آخر، إنما هم بشر مثلنا، ومعضلتهم أنهم اختاروا خيارا تنظيميا هو جوهر أزمتهم وأزمتنا، فهم جماعة سرية وعقائدية، تربى أعضاؤها على السمع والطاعة، وتعتبر نفسها منذ نشأتها وحتى سقوط حكمها فوق الدولة والقانون.
كيف يمكن لأى نظام سياسى وحزبى أن يقبل بجماعة دينية تجند أعضاءها من خلال معايير دينية، فلا تقبل الفتاة غير المحجبة ولا المسيحى ولا المسلم الذى لا يلتزم ببرنامج الجماعة الدينى، ثم بعد ذلك لا تكتفى بالنشاط الدينى، إنما تدخل بهذا التفرد إلى المجال السياسى، فعاشت الاستضعاف حين كانت خارج السلطة، ومارست الاستقواء بعد أن وصلت إليها، وأخرجت نتيجة هذا النمط من التربية العقائدية طاقة كراهية بحق المجتمع إذا قرر رفضها لأنها اعتبرت نفسها الجماعة الربانية المسلمة، وليست مجرد حزب أو مشروع سياسى.
المطلوب هو صيغة للمستقبل تقوم على الفصل التام بين الجماعة الدينية والحزب السياسى، والالتزام بقواعد الدولة الوطنية والدستور المدنى والنظام الجمهورى، بما يعنى أن منتج هذه العملية لن يكون هو فكر وتنظيم جماعة الإخوان المسلمين الذى عرفته مصر منذ نشأتها، إنما هو فكر ومشروع جديد لا علاقة له بمشروع الجماعة.
معضلة الجماعة فى تنظيمها الذى هو عنصر قوتها وضعفها فى نفس الوقت، وقضية بعض نظمنا السياسية مع الجماعة لم تكن خلافًا على مبادئ وأفكار إنما كانت بالأساس صراعا على السلطة، فلم يطالبها أحد فى عهد الرئيس السادات بأن تفصل السياسى والحزبى عن الدينى والدعوى، إنما عادت للحياة السياسية بشروطها كجماعة دينية وليس حزبا سياسيا، وتكرر الأمر بعد ثورة يناير حين سُمح لها بمقار فى كل مدن مصر دون أن تقبل بتقنين وضعها القانونى والدستورى كجمعية أهلية تراقبها مؤسسات الدولة، فهى فوق الدولة والقانون.
أخشى أن تعود الجماعة كما هى مرة أخرى بنفس شروطها وبنيتها التنظيمية دون أى تغيير فى صفقة ترتب علاقات جديدة للسلطة، وعندها سنجد كل الهتيفة الذين قالوا «الموت للإخوان» يُسبّحون بحمدهم، وستبقى الجماعة بتنظيمها دون أى تغيير، وستبقى أزمة مصر أيضا بلا تغيير.