قصة الجمهور البائس أو المؤيدين البائسين، التى أطلقتها مرشحة الرئاسة الأمريكية هيلارى كلينتون فى مواجهة أنصار منافسها الجمهورى دونالد ترامب، تكررت فى مجتمعات كثيرة لوصف قطاع واسع من مؤيدى مرشحين وأحزاب وسياسيين من أصحاب الصوت العالى والشعارات الجوفاء، التى تدغدغ مشاعر البسطاء من الأقل تعليما وانفتاحا على القيم المدنية الحديثة. وقد رفض ترامب تصريحات كلينتون، وسألها: كيف ستحكمين شعبا تصفين جزءا كبيرا منه بأنهم «بؤساء» لأنهم يخالفونك الرأى؟! واعتبر أنها لا تصلح لقيادة أمريكا، وأنها سياسية فاشلة.
والحقيقة أن قصة ترامب وجمهوره فى أمريكا معقدة، فهى من جانب تعكس بؤس الفكر ومحدودية التعليم كما قالت كلينتون، ولكنها من ناحية أخرى تعكس رد فعل، حتى ولو سطحياً، على واقع معيش ومشاكل جديدة، ارتبط جانب كبير منها بالإسلام والمسلمين.
خطاب ترامب معبر عن حالة مجتمعية أمريكية وغربية أصابها الفزع من تصاعد العمليات الإرهابية ومن جرائم داعش ومن تزايد عدد المسلمين فى أوروبا وأمريكا، ودون البحث فى الأسباب العميقة التى تقف وراء الإرهاب، بما فيها المسؤولية الغربية والأمريكية، كان الحل السهل هو الحديث عن طرد المسلمين ومنعهم من دخول أمريكا.
خطاب ترامب مُعادٍ للأجانب والمهاجرين عامة، وللعرب والمسلمين خاصة، وهو بذلك مُعادٍ لفلسفة قيام أمريكا نفسها، التى ضمت مهاجرين من كل بقاع الأرض، وقبلت كل مَن يعيش على أرضها ويلتزم بقوانينها وقيمها مواطنا أمريكيا دون البحث فى أصله وفصله، كما يحدث فى أوروبا وعالمنا العربى.
يقينا عنصرية ترامب وسطحيته لم تحل دون وجود قاعدة اجتماعية له وصفتها كلينتون بـ«الجمهور البائس»، ولكنها فى النهاية تعكس واقعا اجتماعيا وسياسيا تعيشه أمريكا والغرب كله مثّل بيئة حاضنة لهذه الاتجاهات، حتى لو كانت عكس ما اعتادته أمريكا منذ نشأتها.
والواقع أن اتهام البؤس والجهل والتخلف طال تيارات ونظما سياسية كثيرة وليس فقط ترامب وجمهوره، وعادة ما كان يوجه من قِبَل نخبة أكثر تعليما وانفتاحا على قيم العولمة إلى جمهور آخر أكثر بساطة وأقل تعليما، ومؤيد لخطاب الصراخ والهتافات.
ومع التحفظ على تعبير «الجمهور البائس»، فإن هناك طبعات متعددة منه اختلفت فى الشكل والدرجة وبعض المضامين، و«شُوهدت» فى مناطق كثيرة من العالم، سواء فى البلاد الديمقراطية أو غير الديمقراطية، أو فى أوروبا والعالمين العربى والإسلامى.
ففى تركيا مثلا يُنظر للجمهور المؤيد لحزب العدالة والتنمية وأردوجان على أنه الأقل تعليما والأقل وعيا، ويعيش فى المناطق الأكثر فقرا وتهميشا، وكثيرا ما سخرت النخبة العلمانية فى تركيا من جمهور أردوجان، وقارنت بين صور الاحتجاجات التى شهدها ميدان تقسيم باسطنبول، منذ أكثر من 3 سنوات، على يد نشطاء شباب وأعضاء فى تنظيمات يسارية وليبرالية، وبين صور المسيرات المؤيدة لـ«أردوجان»، والتى تُحشد فى باصات قادمة من الأقاليم، وكثيرا ما وصفها معارضوه بأوصاف أكثر قسوة من الأوصاف التى وصفت بها كلينتون جمهور ترامب. صحيح أنه لم يجرؤ زعيم أى من الأحزاب المعارضة الكبرى (الشعب الجمهورى أو الحزب القومى) على وصف جمهور أردوجان بأنه «بائس» أو «متخلف»، إلا أن هذا الوصف تكرر كثيرا فى أوساط القوى الاحتجاجية وكثير من التجمعات الشبابية والحقوقية فى تركيا.
أما فى مصر فقد اعتبر تيار واسع من النخبة المدنية فى مصر جمهور الإخوان جمهور «البؤس» أو جمهور «الزيت والسكر»، الذى يُحشد على شعارات دينية سطحية تدغدغ المشاعر دون أن تحل مشاكل الواقع، وانتشرت جمل «الخرفان» المسيرين وراء قرارات المرشد والجماعة.
والمفارقة أن جانبا من الدائرة الواسعة التى صوتت للإخوان فى فترات سابقة عاد وأيد نظام 30 يونيو، ونال نفس الاتهامات التى نالها أنصار الجماعة فى فترات سابقة، فقد اعتبره الكثيرون نموذجا للجمهور المُغَيَّب وغير الواعى والأقل تعليما.
والمفارقة أن الإخوان أنفسهم اتهموا مؤيدى النظام الجديد بنفس الاتهامات التى كانت توجه لهم، فى حين حافظ قطاع واسع من النخبة المدنية الأكثر تعليما وانفتاحا على العالم الخارجى وقيم العولمة على رفضه مؤيدى الاثنين، أى الإخوان والنظام الجديد.
يقينا هناك واقع مجتمعى معيش دفع قطاعا واسعا من المجتمع المصرى إلى أن يقبل بتأجيل الديمقراطية وحتى بالاستبداد خوفا من الفوضى والإرهاب، وحتى لا تكون مصر مثل سوريا وليبيا والعراق. صحيح أن هذا الجمهور قد انقسم بين جمهور اعتبره البعض أقل وعيا حافظ على إيمانه الكامل بهذا الخطاب حتى الآن، وقطاع آخر تحفظ عليه، واعتبر أن شرط النجاح فى معركة التنمية ومحاربة الإرهاب هو وجود نظام كفء وعادل قادر على إجراء إصلاحات مؤسسية والبدء فى عملية تحول ديمقراطى.
صحيح أن هناك إبداعات خاصة لهذا الجمهور فى مصر مثل مَن اقتنع بأننا أسرنا قائد الأسطول الأمريكى عقب ثورة يناير، أو أن الرئيس السيسى هو الذى سيدمر اقتصاد أمريكا، أو مَن مشى خلف مَن حوَّل لعب الأطفال إلى غارات جوية روسية فى سوريا، ليحول بعض وسائل الإعلام إلى منصات لبث رسائل بائسة للمجتمع تكرس تجهيلا وتسطيحا غير مسبوقين.
سواء اتفقنا أو اختلفنا على تعبير كلينتون «الجمهور البائس» أو «المؤيدين البائسين»، فإن المؤكد أن هناك علما يرصد اتجاهات التصويت فى كل المجتمعات، ويحلل الفارق بين تصويت الريف والحضر، وتصويت الكبار والشباب والرجال والنساء، والخريطة الطبقية والاجتماعية ومستوى التعليم لتصويت الناس، وهى كلها أمور لها علاقة بالعلم لا بالأحكام القيمية والأخلاقية، فطالما انطلقنا من أن كل مواطن له حق التصويت والاختيار فعلينا أن نحترم اختيارات كل فرد ونواجه مخاوفه ببدائل حقيقية لا فقط بخطاب إدانة واستعلاء.