حين يُقدم أى نظام سياسى على قرارات صعبة فعليه أن يسأل نفسه أولاً: عن عناصر قوته وضعفه، والسياقين المحلى والدولى اللذين ستخرج فيهما هذه القرارات، وهل تستلزم تعديلاً فى السياسات الاقتصادية أو تغييراً فى طريقة الحكم وإدارة شؤون البلاد، أو الاثنين معا؟
والحقيقة أن كثيرا من المجتمعات عرفت تغييرا من داخل النظام الحاكم عند الأزمات الكبرى والقرارات الصعبة، فى حين أن هناك مجتمعات أخرى (منكوبة) عرفت العكس تماما، وسارت نظم الحكم فيها عكس ما توقعه أغلب الناس، وعكس ما كان يجب أن تفعله، فدفعت الثمن باهظا، ودفع معها الشعب أيضا ثمن- ليس الفشل- إنما الإصرار عليه.
والحقيقة أن مصر لديها فرصة لإصلاح مسارها السياسى وطريقة إدارة الحكم فيها، وهى على مشارف الدخول فى مرحلة هى الأصعب فى تاريخها المعاصر، عقب التداعيات المنتظرة لقرض الصندوق الدولى، وأيضا دفع فاتورة القرارات الاقتصادية الخاطئة.
وعلينا ألا ننسى أن الهزات الكبرى التى شهدها المجتمع المصرى كانت فى بعض الأحيان فى ظل نظم حكم هى الأكثر شعبية وقوة فى تاريخ مصر، فالصدمة التى أعقبت هزيمة 67 دفعت جيل منظمة الشباب الذى تربى على فكر عبدالناصر إلى التمرد والاحتجاج ضده والتظاهر من أجل الإصلاح والديمقراطية.
كما أن انتصار أكتوبر ودور الرئيس السادات فى تحقيقه جعل شعبيته تصل إلى عنان السماء، وتحول فى أعين عموم المصريين إلى بطل العبور والنصر، ومع ذلك حين قرر رفع الأسعار بشكل فجائى ودون دراسة متأنية أو تمهيد كاف، معتمداً فقط على شعبيته الجارفة، تظاهر الناس ضده فى 18 و19 يناير 1977 من القاهرة حتى أسوان، ولم تهدأ الأمور إلا بعد أن تراجع عن قرارات رفع الأسعار ونزول الجيش للشوارع (قيل وقتها إن قيادة الجيش المصرى أبلغت الرئيس الراحل بأنها ستنزل الشوارع- بعد التراجع عن قرارات رفع الأسعار- حتى يقتصر دورها على حماية المنشآت العامة والخاصة ولا تبدو أنها فى مواجهة الناس).
والمؤكد أن شعبية الرئيس السيسى استمدها أساسا من دوره الكبير فى التخلص من حكم الإخوان، فصار بالنسبة لقطاع غالب من المصريين بطلا قوميا ومنقذا، صحيح أنه فقد جزءاً من هذه الشعبية مؤخرا إلا أن تصوير الأمر على أن كل القرارات الاقتصادية سيقبلها الشعب أمر يحتاج إلى مراجعة فورية.
والحقيقة أن الشروط المترتبة على قرض الصندوق الدولى من رفع للدعم وارتفاع للأسعار تأتى فى ظل واقع سياسى أصعب بكثير مما كان عليه الحال فى عهد الرئيس السادات، فقد كانت فى مصر دولة «عفية»، بها كوادر وكفاءات متميزة، وكانت رايات نصر أكتوبر ترفرف فى الميادين، وهى أمور من الصعب أن نجدها الآن.
والحقيقة أن تحرك الناس ضد بطل العبور لن يحول شىء دون حدوثه الآن فى ظل ظروف أصعب وأداء سياسى أسوأ، ودولة جُرفت من كثير من الكفاءات، وهو ما يضع البلاد كلها فى خطر كبير، خاصة فى ظل حالة التربص التى تبديها أقلية كامنة تنتظر الفرصة لتنقض على النظام الحالى، وهى على استعداد أن تقبل بأى بديل إلا حكم الرئيس السيسى.
والمؤكد أن الوضع الاقتصادى فى غاية الصعوبة، فى بلد وصل حجم الدَّيْنين الداخلى والخارجى فيه إلى 120% من الناتج القومى، فهذا معناه أننا فى وضع اقتصادى خطر، ويكاد يكون كارثيا ما لم نعظم من فرص الاستثمار ونستَعِدْ ولو جانبا من السياحة ونُعِدْ فتح المصانع المغلقة والمتعثرة.
معضلة مصر ليست فى قرض الصندوق ولا فى المساعدات الخليجية السخية لمصر منذ 30 يونيو، إنما فى طريقة إدارة الاقتصاد والسياسة، والتى تحتاج إلى مراجعة قبل القرارات الصعبة، فهناك معضلة الإدارة السياسية والاقتصادية بـ«اللقطة»، وتحويل كل ما يتعلق بالمشاريع الاقتصادية الكبرى إلى قضايا أمن قومى لا يحق للناس مناقشتها، من العاصمة الإدارية حتى استصلاح المليون فدان وغيرهما، هى كلها مشاريع لابد من مناقشة دراسة الجدوى الخاصة بها، وحسم الاستمرار فيها من عدمه على ضوء العائد الاقتصادى، والتوقف عن التعامل مع المعترضين لأسباب محض اقتصادية على اعتبار أنهم مشككون ومتآمرون، فى حين أن الشواهد تقول إن بعض هذه المشاريع لا يمثل أولوية، وسيضر أكثر مما يفيد.
أما ما يتعلق بالإدارة السياسية لتداعيات القرارات الصعبة، فهنا يُطرح سؤال أولى يتعلق بمَن هم المقتنعون بهذه القرارات، وهل هم حقا على استعداد للدفاع عنها، وهل يوجد تنظيم سياسى أو ظهير حزبى قادر على إقناع الناس التى تعانى من أزمة اقتصادية خانقة بقرارات اقتصادية ستزيد أوضاعهم سوءاً، هل نحن فى عصر الإنتاج الحربى و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لأن أرضنا محتلة ونحارب إسرائيل حتى يتقبل الناس التضحية بالطريقة التى تُقال لهم؟
حين يطالب الناس بالتضحية فى ظل واقع يراه أغلبهم لا يحتاج لمزيد من التضحية، فهل يمكن إقناعهم بالعكس عن طريق الإعلام والقنوات الجديدة، وهل هذا الإقناع وارد فى ظل ضعف الحكومة والأحزاب وغياب كامل لأى وسيط سياسى بين الحكم والناس؟
يحتاج الحكم إلى مراجعة جذرية لأدائه السياسى والاقتصادى، ويحتاج لتوسيع دائرة الشراكة مع قوى مدنية كثيرة، ولحكومة جديدة يقودها إصلاحيون لهم علاقة بالسياسة لا موظفون ينفذون دون أى ابتكار أو إضافة، حتى يمكن أن يكون هناك أمل وفرصة للخروج من تداعيات القرارات الصعبة.