تأتى مفارقة الهجوم على ثورة يناير انتصاراً ليونيو من كونها جاءت من بعض الشخصيات التى لا علاقة لها بثورة يونيو، فقد طفحت على السطح بعد أن نزلت الملايين إلى الشوارع تواجه حكم الإخوان وتدخل الجيش فى 3 يوليو ليحسم بقاءهم فى السلطة، ويظهر بعدها شتامو يونيو والمتاجرون بها لا رموزها وثوارها.
مفارقة تبدو غريبة أن يكون الهجوم على يناير من أدعياء يونيو، صحيح أن هناك تياراً واسعاً من الشعب المصرى لا يتعاطف مع يناير ولا يؤيدها، يقابله تيار آخر لا يؤيد يونيو ويرفض مسارها ونتائجها، وهناك تيار ثالث (نراه الغالب) يؤمن بالثورتين بصرف النظر عن تعثرهما فى بناء نظام ديمقراطى جديد، وكان نجاحهما الأساسى فى الإطاحة بنظامين مرفوضين شعبياً.
سب يناير مهين لملايين المصريين الذين نزلوا للشوارع مطالبين بالحرية والكرامة، ومهين أكثر لمئات الآلاف من الشباب الذين أخرجوا طاقة أمل وبناء حين شهدناهم ينظفون ميادين التحرير يوم 12 فبراير2011، معلنين انتهاء ثورتهم ضد بقاء مبارك الأبدى فى السلطة وضد مشروع التوريث، ومتقبلين تسليم السلطة للمجلس العسكرى (رغم أخطائه)، وهاتفين الجيش والشعب يد واحدة.
أدعياء يونيو، لا ثوارها وأبطالها الحقيقيون، أصروا ألا يروا هؤلاء الشباب ولا تلك الملايين واختزلوا يناير فى جرائم الإخوان، والمراهقة الثورية التى عبر عنها بضع مئات، ونسوا أو تناسوا أن هناك ملايين تظاهروا سلميا على مدار 18 يوما دون أن يلقوا حجرا، وأجبروا مبارك على التنحى، وطالبوا بإصلاح مؤسسات الدولة لا هدمها، وكانوا على استعداد لتقبل أى بديل إصلاحى من داخل النظام، ولكنه غاب بسبب بقاء مبارك 30 عاما فى السلطة وحدوث أكبر عملية تجريف سياسى شهدتها مصر منذ عقود.
بعض أدعياء يونيو لا يرون معنى وقيمة خروج ملايين المصريين من أجل الكرامة الإنسانية والعدالة مثلما يفعل بعض أدعياء يناير حين يتجاهلون الملايين التى خرجت من أجل إسقاط حكم الإخوان، ويختزلون يونيو فى تدخل الجيش لا فى كراهية الناس لحكم الجماعة.
ثورة يناير ليست مؤامرة حتى لو حاول بعض من ادعوا انتماءهم لها أن يتآمروا عليها، وثورة يونيو ليست انقلاباً حتى لو حاول البعض أن يقفزوا عليها ويتملقوا سلطتها لأنها سلطة وليست اختيارا وحكما قابلا للتغيير بالوسائل الديمقراطية.
الخلاف على الثورات مجتمعياً أمر طبيعى، وفى مصر الخلاف على أى حراك ثورى طبيعى، وإن كل من يرى أن رفض يناير هو فقط صناعة سلطوية لا يرى الواقع، صحيح أن إهانة يناير (لا نقدها) صناعة سلطوية من بعض مندوبى الأجهزة الأمنية، إنما عدم الإيمان بها أو رفضها هو رأى تيار من الشعب المصرى من حقه أن يرى أن الثورات ليست طريقا آمنا للتغيير، ويعتبر أن المسار الإصلاحى هو الطريق الأمثل.
صحيح أن الثورة هى فعل اضطرارى يفضل على أى مجتمع عدم الدخول فيه، وأنها حدثت فى 25 يناير بعد أن أُغلقت كل مسارات الإصلاح وزوّر نظام مبارك انتخابات 2010 بشكل كامل، ولم يكن أمام الناس إلا الثورة والاحتجاج.
من حق الناس أن تؤمن بما تشاء مع يناير أو ضدها دون أى اتهامات مسبقة (ثورة مضادة، إخوان، طابور خامس، عملاء) كما يفعل المتاجرون بيونيو، وأن التنوع الموجود داخل المجتمع المصرى يمكن أن يُنظم بإرادة سياسية تضع قواعد قانونية ودستورية تقبل أن هناك وجها تقدميا لمصر تعبر عنه ثورة يناير، وأن هناك وجوها محافظة وتقليدية ترفضها ولا تميل إلى خياراتها.
هذا التباين فى المصالح والرؤى السياسية يحتاج إلى دولة تنظمه، وتضع قواعد وقوانين تضمن إدارة صحية للتنافس بين هذه الرؤى وشبكات المصالح، ولا تتركها لحملات التخوين والسباب والاتهامات المتبادلة، وتتصور أن خطاب الاصطفاف الوطنى والكل فى واحد قادر على أن يحل مشكلة الانقسام الطبيعى داخل المجتمع المصرى.
فالعالم كله تعيش فيه قوى محافظة وتقدمية، ويعرف القوى التقليدية والليبرالية، ويعرف اليمين واليسار والثورى والإصلاحى، وجميعهم يتعايشون ويتنافسون وأحيانا يتصارعون وفق قواعد دستورية وقانونية تنظم المجتمع ونظامه السياسى، ولا تُترك الأمور بهذه الاستباحة مثلما يجرى فى مصر الآن.
من حق البعض أن يقف مع يناير ومن حق البعض أن يعارضها، مثلما من حق البعض أن يؤيد يونيو ومن حق البعض الآخر أن يعارضها، كذلك من حق الكثيرين أن يؤمنوا بالثورتين ويروهما مكملتين لبعضهما البعض، وأن فى الأولى انتفض الشعب المصرى ضد الفساد والاستبداد، وفى الثانية انتفض ضد الإرهاب واختطاف الدولة والمجتمع.
أرض الله واسعة، والتنوع سمة أى مجتمع، وتعارض المصالح والرؤى والمدارس الفكرية والسياسية من سنن الكون، وفى مصر نحن صرنا من البلاد النادرة التى بدلا من أن تنظم هذا التعارض فى أطر قانونية تضمن التنافس السلمى والديمقراطى، ظلت أسيرة خطاب العموميات والشعارات الرنانة، وتركت ساحة الخلاف السياسى بلا أى قواعد، فكانت الحرب الوهمية بين يناير ويونيو التى أطلقها متاجرون بيونيو لا ثوارها ورموزها.