انتمى ما حدث فى مصر وتونس نظرياً إلى نماذج الثورات الحديثة أو تجارب التغيير الناجحة التى تسقط أو تغير النظام السياسى وتحافظ على الدولة بغرض إصلاحها، إلا أن المسار الذى شهده كلا البلدين كان فى الحقيقة مختلفا تقريبا فى كل شىء، خاصة فيما تعلق بالتعامل مع الحزب الحاكم، فقد حافظت تونس على العملية السياسية ولم تحدث قطيعة معها وأعادت بناء الحزب الدستورى الحاكم على أسس جديدة من خلال حزب نداء تونس الذى ضم كثيرا من أعضاء الحزب القديم.
والحقيقة أن خريطة مصر السياسية، عشية ثورة يناير، كانت منقسمة بين 3 تيارات: الأول تيار إصلاحى آمن بأن الإصلاح سيأتى من داخل الدولة أو النظام (من خارج شلة التوريث) بضغوط شعبية، وتيار ثان آمن بالثورة الدائمة والخيارات الثورية وضرورة إسقاط النظام كله وحل الحزب الوطنى وعزل كل قياداته، وهناك ثالث: مدرسة المراوغين الإخوان أصحاب الأجندة السرية الذين أعطوا المصريين وجها مبتسما حين كانوا خارج السلطة فى عهد مبارك، وعادوا وأظهروا كل وجوه الكراهية بعد أن أخرجهم الشعب منها.
والحقيقة أنه منذ انطلاق ثورة يناير اختارت غالبية الناس المسار الإصلاحى واختار قلة من الثوريين ما سموه المسار الثورى والفعاليات الثورية، واعتبروا أن مشكلة مصر فى أن نخبتها لم تؤمن بأن الثورة يجب أن تكون مستمرة، وأن شبابها ترك الميدان يوم 11 فبراير 2011، وأن الشعب لم يدعم «الفعاليات الثورية» التى حاصرت الأقسام ومديريات الأمن ووزارة الدفاع، والسؤال الذى يجب أن يطرح بعد كل هذا التعثر الذى شهدناه، وبعد كل هذه الدماء التى سالت: هل الأزمة فى أننا لم نكن ثوريين ولم يتبن غالبية الشعب مقولة استدعتها قلة من متحف التاريخ اسمها الثورة الدائمة أو المستمرة، ولم تطبقها دولة واحدة فى العالم، أم أننا دفعنا ثمن فقدان المسار الإصلاحى منذ يوم 12 فبراير وحتى الآن؟
بالقطع كنت ومازلت مع الرأى الثانى وأن مسؤولية فقدان المسار الإصلاحى دفع ثمنها الجميع، وتتحملها أطراف كثيرة، على رأسها نظام مبارك الشائخ نفسه، والقوى الثورية والتيارات المدنية، وأخيرا حسابات الإخوان المسلمين التى رأت الجماعة ولم تر الوطن.
فالمؤكد أن الشعب المصرى قام بثورة عظيمة ونبيلة فى 25 يناير وبقى حتى يوم 11 فبراير فى الميادين حتى أجبر الرئيس مبارك على التنحى عن السلطة فى 11 فبراير وخرج شباب مصر فى 12 فبراير ليكنس ميدان التحرير وينظفه، فى رسالة، ولو رمزية، للجميع تقول: نعم كان هدفنا إسقاط رئيس بقى فى السلطة 30 عاما وإجهاض مشروع التوريث وبناء نظام سياسى جديد، وليس إسقاط الدولة ولا خطفها ولا تحويل الثورة إلى مهنة أو وظيفة إنما فتح الباب أمام بناء نظام ديمقراطى عادل يعيش فيه الجميع بكرامة وحرية.
والحقيقة أن مشهد 12 فبراير كان يقول لنا إن هناك كتلة غالبة كانت على استعداد أن تقبل بأى بديل من داخل النظام خارج شلة التوريث سواء كان عمر سليمان حتى شهر سبتمبر (موعد انتهاء مدة مبارك الرئاسية) أو عمرو موسى أو أحمد شفيق أو كمال الجنزورى أو قائد عسكرى جرىء شبيه بالسيسى، وتجرى إصلاحات سياسية تحت ضغظ شعبى يجبر النظام على إتمامها تدريجيا.
والمفارقة أن مبارك الذى ثار عليه الناس هو الذى قام، فى اللحظات الأخيرة، وتحت ضغط الملايين بتعديل الدستور كما طالبت المعارضة، واختار الإصلاحى حسام بدراوى على رأس الحزب الوطنى وبدأت البلاد تستعد لانتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف قضائى كامل.
والحقيقة أن هذا المسار كانت ترجمته العملية أن الحزب الوطنى سيستمر ككيان تنظيمى بعد أن أبعد القيادات الفاسدة التى زورت انتخابات 2010 وكانت سببا فى ثورة يناير، وأنه سيضم، بشكل أساسى، رجالات «حزب الدولة» الذين اعتادوا أن ينضموا إليه منذ الاتحاد الاشتراكى ثم حزب مصر وحتى الحزب الوطنى، بجانب شبكات المصالح التقليدية المعروفة فى الريف والمدن الصغيرة.
والسؤال: هل كان أفضل لمصر أن يكون هناك حزب وطنى متراجع يقوده إصلاحى، ويحصل بحد أقصى على 30% فى انتخابات برلمانية نزيهة، ولا ينشغل الناس بحله وعزل كل من فيه، إنما ببناء بديل حزبى وسياسى قادر على المنافسة وتقديم سياسات بديلة لنظام مبارك وحزبه الوطنى بدلاً من الانشغال بخطاب إسقاط كل شىء دون امتلاك بديل لأى شىء.
المفارقة أن الحزب الوطنى بقى دون مسمى الحزب الوطنى، ولم يستطع تيار سياسى واحد فى مصر من المحسوبين على ثورة يناير أن يطالب الآن بالعزل السياسى، ولا أن يقول إنه لن يضم على قوائمه الانتخابية أعضاء فى الحزب الوطنى، وصار أعضاء الحزب السابقون يمثلون أغلبية متفرقة داخل البرلمان بلا رابط تنظيمى أو حزبى.
لقد فقدنا إيجابية وجود حزب منظم حتى لو كان الحزب الوطنى، وحافظنا على سلبياته باستمرار نفس المنظومة وطريقة الحكم القديمة، ولكن دون وسيط حزبى وسياسى.
إن وجود الحزب الوطنى فى طبعة جديدة كان يعنى وجود وسيط سياسى بين أجهزة الدولة والشعب، قابل للإصلاح بعد التخلص من التوريث والقيادات الفاسدة يعتمد على القوى التقليدية والمحافظة داخل المجتمع، وهو ربما كان سيساعد على وجود كيان قوى للمعارضة يواجهه ويقوى الأحزاب السياسية، ويحول دون انتقال البلاد إلى حكم بالأجهزة دون أى وسيط سياسى.
نعم لقد عرفت مصر، منذ تجربة الوفد قبل ثورة يوليو، والاتحاد الاشتراكى العربى والحزب الوطنى بعدها، دورا كبيرا للأجهزة الأمنية والسيادية ولكنه دائما كان بالشراكة مع كيانات سياسية، صحيح أن هذه الكيانات الآن ضعيفة إلا أن خطر الحكم بدون رؤية (وشراكة) سياسية أكبر مما يتصوره الكثيرون.