بقلم : عمرو الشوبكي
أسوأ ما يجرى فى مصر الآن هو تلك القدرة النادرة على تحويل أى طاقة إيجابية تساعد المجتمع على تجاوز ولو جانب من أزماته، إلى طاقة سلبية تعمق أزماته.
والحقيقة أن قضية «الصلح العرفى» التى وظفتها الدولة فى الاتجاه الخاطئ وهاجمها نشطاء مسيحيون ومسلمون عكست جانبا من هذه الأزمة، فيقينا الصلح العرفى بالطريقة التى توظفه بها الدولة كارثة مكتملة الأركان، لأنه يأتى كبديل لتطبيق القانون، وبديلا عن محاسبة مرتكبى الجرائم الطائفية وغير الطائفية، مثلما جرى مؤخرا فى قرية الكرم، وكان ضحاياها من المسيحيين المصريين.
جلسات الصلح العرفى لم تعد تجدى لأنها صممت من أجل أن يفلت الجناة من العقاب، ولذا فقد رفضت مطرانية أبوقرقاص المشاركة فى جلسات الصلح التى جرت مؤخرا، وهاجمها بشدة مسلمون ومسيحيون، واعتبروا تدخلات «بيت العائلة»، الذى رعى هذه الجلسات، نوعا من المسكنات على حساب تطبيق القانون، ولا تحل المشكلة إنما تعقدها، وتحدث جروحا سلبية يشعر معها المسيحيون بأنهم مطالبون مع كل اعتداء يتعرضون له بأن يقبلوا الصلح من أجل البلد والوحدة الوطنية، فى حين لا يدفع مرتكبو الجرائم من المسلمين أى ثمن.
يقينا الصلح العرفى فى هذا السياق مرفوض جملة وتفصيلا، ولكنه فى سياق آخر مطلوب جملة وتفصيلا، بعد أن يرتدى ثوبا جديدا ونغير رسالته، ويتوقف بعض نشطاء المسلمين والمسيحيين عن المزايدة على الكنيسة وإهانة الأزهر لصالح الفراغ والعدمية، ويبذلون قليلا من الجهد من أجل تطوير أدائهما، وخاصة الأخير، وربطه بقضايا المجتمع والعيش المشترك.
من قال إن دور رجال الدين غير مهم فى توعية الناس بضرورة احترام الآخر وصون حقوقه وواجباته لا الإيمان بعقيدته؟، ومن قال إن مصر ستحل مشاكلها بهجوم مجموعة من النشطاء والجمعيات الحقوقية «الفوقية» على أى مبادرة قادمة من رجال الدين هدفها المجتمع لا السلطة؟، وكيف ينظر البعض باستعلاء شديد على أى جهد هدفه التواصل مع الناس، وخاصة المسلمين، وتوعيتهم بمخاطر الاعتداءات الطائفية وتعميم الخطأ، وغيرها من القيم الدينية الصحيحة.
يقينا دور الأزهر وبيت العائلة فى حادثة الكرم جاء فى التوقيت الخطأ، ليغطى على حادثة مؤلمة، ونسى أو تناسى أن هناك جريمة عار حدثت، ويجب محاسبة المجرمين أولا، ثم بعد ذلك يجب تطوير فكرة الصلح العرفى وتحويلها إلى مبادرة متكاملة لدعم العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين تتحدث عن المشاكل الواقعية، وصور التميز الطائفى التى يتعرض لها المسيحيون فى مصر بعيدا عن الشعارات الدينية والسياسية الكبيرة التى ثبت فشلها فى الواقع العملى.
لا يجب أن نهدم فكرة تواصل النخب المدنية والدينية المستنيرة مع مناطق الاستقطاب الطائفى لمنع اشتعالها، فهذه الفكرة التى كان قد طرحها الباحث الوطنى النزيه والمحترم هشام جعفر (لايزال رهن الحبس الاحتياطى منذ حوالى 6 أشهر) مع باحثين مرموقين مثل سمير مرقص وحنا جريس وآخرين لرصد أماكن التوتر الطائفى والعمل على حلها قبل وقوعها من خلال التواصل المباشر مع الناس والقوى المحلية، وهى واحدة من أكثر المبادرات علمية ورصانة. فهل هذا النوع من المبادرات ومثلها الكثير سنعتبره باستعلاء فوقى: «صلحاً عرفياً»؟.
لن نواجه المشاكل الطائفية فقط بالصراخ عقب كل جريمة من أجل محاسبة الجانى، إنما بالتواصل مع المجتمع وتكثيف المبادرات الأهلية والتلاقى الإنسانى بين المسلمين والمسيحيين، وحل المشاكل والخلافات الصغيرة لا الجرائم الجنائية، وتطبيق القانون بكل حسم على الجميع.
ش