مع كل جريمة إرهابية تحدث يشتعل النقاش فى الشرق والغرب عمَّن المسؤول؟ وشهدنا فى مراحل سابقة حديثا سياسيا للنظم العربية عن مسؤولية الغرب والسياسات الأمريكية والإسرائيلية عن تصاعد الإرهاب فى المنطقة، حتى وصل إلى سجال مباشر بين الرئيس الأسبق حسنى مبارك والرئيس الأمريكى جورج بوش حين تبادلا الاتهامات عن مسؤولية كل طرف عن تصاعد الإرهاب، واعتبر الرئيس الأمريكى أن غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان هو السبب وراء تصاعد الإرهاب، ووجه نقداً للنظام المصرى، فى مؤتمر شهير فى شرم الشيخ، حضره مبارك، واضطر على أثره للخروج من القاعة، وترك الرئيس الأمريكى يخطب وحده.
ودارت الأيام وحدثت الثورات العربية وشهد العالم العربى سقوط نظم عربية كثيرة حل مكانها الفوضى والإرهاب مثل ليبيا، ونظام وحيد يسعى للتحول الديمقراطى، وهو تونس، وتجربة أخرى حافظت على بقاء الدولة الوطنية ووقفت حائط صد أمام الجماعات المتطرفة والإرهابية، ولكنها تعثرت فى تجربة تحولها الديمقراطى مثل مصر، كما أن الغرب- الذى كثيرا ما أرجع أسباب الإرهاب فى بلادنا إلى غياب الديمقراطية- اكتوى بنار الإرهاب من أجيال وُلدت على أرضه وعاشت فى ظل نظمه الديمقراطية.
وانتقل جانب كبير من النقاش العالمى حول الإرهاب من مسؤولية غياب الديمقراطية إلى مسؤولية النص الدينى، حتى وصل الأمر- عقب تفجيرات بروكسل- بنائب بلجيكى إلى حمل نسخة من القرآن الكريم، فى جلسة علنية للبرلمان، واتهامه بأنه «مصدر كل الشرور»! بالمقابل، تحدثنا- نحن العرب- عن التفسيرات المنحرفة للنص الدينى وكتابات ابن تيمية ومَن سار على دربه كمصدر للشرور، وطالبنا بالإصلاح الدينى، وتراجع الحديث عن مسؤولية غياب الديمقراطية عن تصاعد الإرهاب «دون أن يختفى» لصالح حديث أوسع عن السياق الاجتماعى والسياسى المحيط بالظاهرة الإرهابية.
والواقع أن نقاش النص الدينى أو السياق الاجتماعى والسياسى كمسؤول أول «وليس وحيدا» عن الإرهاب هو نقاش ارتبط بالتحول الذى أصاب الحركات الإسلامية المتطرفة فى نصف القرن الأخير، فقد بدأت ظاهرة العنف الدينى منذ منتصف الستينيات على يد أفكار سيد قطب وكتابه الشهير «معالم فى الطريق»، ثم ظهر مع بداية السبعينيات تنظيما الجهاد والجماعة الإسلامية فى مصر، اللذان دخلا فى مواجهات دموية مع النظام القائم، وصلت حتى اغتيال الرئيس السادات على يد عناصر جهادية، ثم ظهرت الجماعة الإسلامية المسلحة فى الجزائر، والتى دخلت فى مواجهات هى الأكثر عنفاً ودموية فى تاريخ صراع النظم العربية مع جماعات التطرف فى القرن الماضى، وانتهت بهزيمتها، كما ظهرت «الجماعة السلفية الجهادية فى بلاد المغرب الإسلامى»، فى تسعينيات القرن الماضى، ومارست عنفاً داخل بلاد المغرب العربى وأفريقيا حتى وقت قريب.
والحقيقة أن دور النص الدينى كان حاكما فى بنية هذه الجماعات، فقد امتلكت نمطا فكريا وعقائديا متكاملا يدور حول مفهوم الحاكمية لله واعتبار كل القوانين الإنسانية والوضعية خروجا عن أحكام الشريعة، وأن النظم القائمة هى نظم جاهلية لا تطبق أحكام الله، ولذا وجب تكفيرها وإسقاطها بالعنف.
وخرجت مئات الكتب وآلاف المنشورات والأبحاث التى تبرر ممارسة العنف والإرهاب، ولعل دراستنا فى تسعينيات القرن الماضى لفكر تنظيم الجهاد أوضحت أن مدخل أى عضو للانضمام إلى هذا التنظيم كان يبدأ بالإيمان بنسق عقائدى متكامل مستند إلى تفسير خاص للنص الإسلامى، يدفع العنصر بعد سنوات من الانخراط فى التنظيمات الجهادية إلى ممارسة العنف والإرهاب فى مواجهة ما كان يعتبره «النظم الكافرة» والمجتمع الجاهلى.
وإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر أحد أهم المفكرين الجهاديين، الذين نظَّروا لمسألة العنف الدينى وكيَّفوها شرعيا وربطوها بالنص الإسلامى، وهو سيد إمام الشريف- «واسمه الحركى دكتور فضل»، والذى يُعد أحد أهم مَن صاغوا الإطار الفكرى للتنظيمات الجهادية فى مصر وخارجها- نجد أن الرجل كتب مجموعة من الكتب أهمها: «كتاب العمدة فى إعداد العدة»، و«الجامع فى طلب العلم الشريف»، و«الإرهاب من الإسلام ومَن أنكر ذلك فقد كفر»، واقتربت جميعاً من الألفى صفحة، واعتمدت بشكل كامل على تفسيرات الرجل الخاصة للنص الإسلامى كمبرر لممارسة العنف والإرهاب وتجنيد العناصر الجديدة.
صحيح أن هذه الكتب تمثل نوعاً من الانحراف الفقهى والعقائدى عن صحيح الإسلام، وسبق أن دحضها علماء كثيرون، وحتى سيد الإمام نفسه راجع، فى كتاب آخر سماه «ترشيد الجهاد» جانبا من تفسيراته القديمة للنص الدينى، الذى ظل الدافع الرئيسى وراء انضمام الكثيرين لتنظيمات العنف، وأيضا أساس التوبة والتوقف عن ممارسة العنف.
وقد تغير الأمر مع بدايات العقد الماضى حين تراجع دور النص الدينى كمحدد أساسى فى عملية التجنيد لتنظيم القاعدة، ثم داعش، لصالح التأثير الكبير للسياق الاجتماعى والسياسى المحيط.
صحيح أن النص الدينى ظل حاضراً كمبرر للقتل أو الانتحار، ولكن صانع الكراهية والإرهاب وتكفير المخالف لم يعد أساسا تفسيرا منحرفا للنص الدينى، إنما هو واقع طائفى فى العراق أشعر قطاعاً واسعاً من السُّنة بالاضطهاد والتهميش، أو مظالم سياسية وطائفية وجرائم حرب ارتكبها النظام فى سوريا، فدفعت جزءاً من السُّنة للانضمام لداعش أو التواطؤ معه، ونفس الأمر ينطبق على دواعش أوروبا، الذين كانوا ضحايا سياق مجتمعى عانوا فيه من التهميش والعنصرية والفشل الدراسى والمهنى، كما أن تاريخ معظمهم- كالأخوين كواشى، «منفذى عملية صحيفة شارلى إبدو الفرنسية بدايات العام الماضى»، والأخوين خالد وإبراهيم البكرى، منفذى عملية بروكسل، وصلاح عبدالسلام، «الذى أوقفته السلطات البلجيكية قبل الاعتداء الإرهابى بأيام قليلة كمسؤول عن عملية باريس»- لم يكن مع النصوص القرآنية، إنما كان فى الملاهى الليلية ومع الحسناوات ومع جرائم جنح حق عام وسرقات صغيرة.
دواعش أوروبا أو دواعش سوريا أو العراق هم فى غالبيتهم الساحقة مارسوا الإرهاب نتيجة واقعهم الاجتماعى والسياسى المر، صحيح أنهم بحثوا عن نص دينى يبرر العنف والإرهاب، لكن هذا أمر مختلف عن جهاديى القرن الماضى، الذين كان النص هو صانع العنف لديهم وطريقهم لحمل السلاح.