هو إرهاب عابر للحدود والمجتمعات لم يعد مقصوراً على دولة ولا تنظيم، إنما تحول إلى «حالة» تحتاج إلى علماء نفس واجتماع وسياسة وخبراء أمنيين لفك طلاسمها والانتصار على خطرها، بعد أن صارت جملة الحرب على الإرهاب لا تعنى الكثير ولم تساو انتصاراً.
تقريباً على مدار أسبوع، شهد العالم عملية إرهابية كل يوم من فرنسا إلى مالى إلى مصر، وأمس الأول شهدنا عمليتين إرهابيتين فى يوم واحد: الأولى صباحا فى مدينة العريش المصرية، والثانية فى المساء فى قلب تونس العاصمة.
كل النظريات العلمية والأبحاث الاجتماعية والسياسية التى درست ظاهرة الإرهاب فى العالم، خاصة فى العقود الأخيرة، أصبحت حائرة أمام تفسير الظاهرة وفق نظرية أو تصور واحد، فهناك من رأى أن هناك دوافع اقتصادية واجتماعية للإرهاب دحضتها تجارب جماعات إرهابية كثيرة، وهناك من قال إن استبداد النظم العربية هو السبب وراء وجود الإرهاب، فظهر فى أوروبا الديمقراطية بقوة، وهناك من قال إن انحيازات أمريكا وسياسات الاحتلال الإسرائيلى هى السبب أيضا وراء الإرهاب، فظهر إرهاب الدواعش فى كل مكان إلا إسرائيل.
والحقيقة أن الإرهاب الذى نشهده فى كل مكان فى العالم نتاج تحولين كبيرين أحدهما يرجع للتغيير الذى أصاب بنية الجماعات الإرهابية وانتقالها من المحلية والصراع مع السلطة الداخلية بغرض إسقاطها، وبناء مشروعها الإسلامى، إلى صراع انتقامى مع العالم والإنسانية، وعبر هذا التحول حدث تغير أعمق يتعلق بتراجع تأثير الإطار العقائدى الحاكم لهذه الجماعات، ففى عهد الجماعات الجهادية المحلية كان هناك إطار عقائدى وتفسير فقهى خاطئ للدين يحرك هذه الجماعات والآن تراجع حتى غياب هذا الإطار لصالح شعارات دينية سطحية تستدعى لتبرير القتل والإرهاب.
والحقيقة أن التحول الذى أصاب الجماعات الإرهابية وانتقالها من مرحلة الجماعة الجهادية التى قد تكفر حاكماً وفى نفس الوقت تضع بعض الضوابط على قتل المدنيين (مثل ما جرى مع الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد فى مصر) إلى مرحلة الجماعات التكفيرية المتعولمة التى لم تضع أى ضوابط من أى نوع على القتل والذبح اليومى.
والحقيقة أن هذا التحول الذى حدث فى مسار الجماعات الإرهابية ربما تكون بدايته مع اعتداءات 11 سبتمبر ثم الحرب الأمريكية على الإرهاب، والتى صارت أحد مصادر الإرهاب، حين ظهرت أمام العالم نوعية من الإرهابيين الجدد يختلفون عن الإرهابيين القدامى، فهم جزء من شبكات تواصل اجتماعى أكثر منهم جزءاً من تنظيمات عقائدية، واستسهلوا الأحكام المبسطة القطعية عن دار كفر ودار ردة ودار إسلام ودار دعوة وغيرها من مفردات شبكات الجماعات التكفيرية الجديدة.
ولعل عام الحوادث الإرهابية فى باريس له أكثر من دلالة فى ظهور هذا النمط من «الإرهابيين الجدد»، فالأخوان شريف (32 عاما) وسعيد (34 عاما) كواشى، اللذان قاما بالاعتداء على صحفيى شارلى إبدو بداية هذا العام هم خليط من ثقافة شباب الضواحى الفرنسية الفقراء والمهمشين الذين اعتادوا القيام بمظاهرات عنيفة وحرق مراكز شرطة ومنشآت عامة دون أن تكون لهم دراية تذكر بالإسلام ولا فكر ابن تيمية ولم يقرأوا كتابا واحدا عن الجهاد وشروطه.
ونفس الأمر تكرر مع عبدالحميد أباعود، العقل المدبر لعملية باريس الإرهابية، والذى سقط قتيلاً أثناء عملية الشرطة الفرنسية فى ضاحية «سان دونى» فهو أيضا ذهب لسوريا وكان جزءا من تنظيم داعش الذى احتضنته بيئة اجتماعية وسياسية حركها القهر والنظام الطائفى وليس الفكر الجهادى، وهو استكمل مساراً آخر بدء أقل وحشية (نتيجة غياب الحاضنة السورية) مع أسماء أخرى إسلامية حملت الجنسية البريطانية مثل «عمر الخيام»، و«حيد محمود»، «جواد أكبر»، «صلاح الدين أمين»، وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة بعد ثبوت ضلوعهم فى تفجيرات لندن فى يوليو 2005 وراح ضحيتها 56 شخصا، وجميعهم لم يكن لهم ماضٍ جهادى.
الغالبية العظمى من متطوعى «داعش» القادمين من دول غربية ليست لديهم دراية بالتفسيرات الفقهية الجهادية ولم يكن لهم ماضٍ متدين أو سلفى، إنما تحولوا فجأة إلى جهاديين وتكفيريين عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى التى استغلت إحساسهم بالتهميش ومعاناتهم من العنصرية وسقطوا بكل سلاسة أسرى الخطاب الجهادى فى طبعته الانتقامية الجديدة.
وتعد البيئة الجديدة فى العراق، ثم سوريا، الحاضنة الأولى للإرهاب الجديد فى العالم، فهى بيئة خصبة جذبت محبطين من كل بلاد العالم يحركهم القهر والانتقام والأموال دون أى تكوين عقائدى يذكر ولو فى الاتجاه الخاطئ، فشباب تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية كان يحتاج إلى سنوات من الإعداد النفسى والعقائدى والدينى ليحمل سلاحا ويغتال شخصا لا أن يقوم بعملية انتحارية، أما الآن فهو مستعد لأن يحمل السلاح فى أيام قليلة ويقوم بعملية انتحارية فى أسابيع معدودة، لأن دوافعه لم تعد عقائدية تماما إنما يحركها الانتقام والثأر، سواء من النظم الطائفية التى قهرته فى العراق وسوريا، أو من الغرب الذى ولد على أرضه وهمشه، فالدوافع هى بالأساس اجتماعية وسياسية استغلتها أطراف وأجهزة مخابرات دولية وإقليمية كثيرة لتخرج لنا الإرهابى القاتل فى طبعته الجديدة.
إن محاربة الإرهابيين الجدد لن تكون فقط أو أساساً بدحض أفكاره الدينية الخاطئة (لأن أغلبهم ليس لديهم فكر من الأساس) إنما تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية التى أنتجتهم، خاصة فى سوريا، وحصارهم أمنيا وعسكريا.... هذه هى أدوات الحرب على الإرهاب الجديد.