مثلت عملية اغتيال النائب العام تحولاً فى مسار العمليات الإرهابية فى مصر باستهدافها أحد أركان الدولة المصرية بتفجير غادر فى قلب القاهرة، سقط على إثره المستشار هشام بركات شهيدا فى شهر رمضان الكريم.
وبدت دوامة العنف فى مصر معرضة للتفاقم فى الفترة القادمة رغم تصاعد الحديث عن ضرورة تغيير قانون الأحوال الجنائية، أو وضع قانون جديد لمكافحة الإرهاب، وهى كلها أمور مطلوبة لمواجهة القتلة والمجرمين ومن يرفعون السلاح فى وجه الدولة ويروعون الأبرياء، وهل هى بمفردها قادرة على وقف دوامة العنف؟
الحقيقة أن خطاب التهديد والوعيد السياسى والإعلامى، الذى يمكن تفهمه كرد فعل فى لحظات الغضب على مصاب جلل مثل استشهاد النائب العام، لا يمكن أن يحكم سياسات دولة عليها أن تخطط لمحاربة الإرهاب وتفهم سياقاته وأسبابه، والأساليب المركبة والمتنوعة لحصاره وهزيمته وعزله من أى حاضنة شعبية.
والحقيقة أن ما سبق أن كتبناه تحت عنوان «النصر المؤجل على الإرهاب» يرجع إلى خلل واضح فى استراتيجية الدولة فى مكافحة الإرهاب، وعدم القدرة على فهم دوافعه المختلفة والبيئة الحاضنة له، لأن هذا الفهم سيتطلب استحقاقات سياسية لايزال هناك حرص على عدم الاقتراب منها، وأداء مهنياً أكثر احترافية مازلنا بعيدين عنه ولا نرغب فى الاعتراف بأوجه القصور الموجودة فيه.
والمؤكد أن أنماط الإرهاب الجديد فى العالم تختلف عما شهدناه فى مصر وكثير من البلاد العربية فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، وبات من المؤكد أن هناك مساحة أكبر للدافع السياسى والاجتماعى على حساب الجانب العقائدى والفقهى الذى سيطر على تنظيمات مثل الجهاد والجماعة الإسلامية فى مصر، والقاعدة قبل 11 سبتمبر، وغيرها من التنظيمات الجهادية المحلية فى أكثر من بلد عربى.
ومع بدايات الألفية الثالثة، وبدءا من الغزو الأمريكى للعراق، مرورا بتجارب ثورات الربيع العربى، وانتهاء بإسقاط حكم الإخوان فى مصر، بدا واضحا أن التأثير الأكبر على العناصر الإرهابية هو العوامل السياسية والاجتماعية المحيطة، مطلية بقشرة جهادية دينية لا تغير الكثير فى جوهرها السياسى.
إن المؤيدين لداعش فى العراق وسوريا هم ضحايا نظم طائفية دفعت قطاعات من سُنة كلا البلدين إلى تشكيل بيئة حاضنة للجماعات التكفيرية، من باب الانتقام من السلطة الطائفية التى اضطهدتهم، وفى مصر ظهر خطاب المظلومية الإخوانى ليبرر عمليات الإرهاب وترويع الآمنين.
حتماً مثلت الدوافع السياسية والاجتماعية عاملا رئيسيا وراء الانخراط فى أعمال إرهابية، على عكس ما جرى مع التنظيمات الجهادية فى السبعينيات حين كان يحتاج كل عضو لسنوات من التربية العقائدية والفقهية (ولو المنحرفة)، لكى يؤمن بتكفير الحاكم ويحمل السلاح من أجل إسقاطه.
فى واقعنا الجديد هناك رواية مظلومية سياسية وقراءة إخوانية مبسطة ومختزلة ترى ما جرى فى مصر منذ 30 يونيو انقلابا عسكريا يقتل الناس ويعتقلهم، وأن الإخوان جماعة ربانية محصنة من الأخطاء، وأن كل خصومها أشرار وانقلابيون يجب التخلص منهم.
خطاب المظلومية السياسية كان هدفه الأساسى استقطاب جزء من الشباب غير الإخوانى لصالح مشروع الجماعة، وظهرت أسماء لجماعات جديدة، مثل العقاب الثورى والمقاومة الشعبية وغيرهما، وكلها تحركها مقولات الإخوان أكثر من تنظيم الإخوان.
إن مواجهة هذا الشكل الجديد من الإرهاب بالقوانين الرادعة أو بتعديل قانون الإجراءات الجنائية وبالإسراع فى تنفيذ أحكام الإعدام هى كلها أمور ستزيد من العنف ولن تنقصه، وربما ستذكرنا بالحرب الأمريكية على الإرهاب التى أصبحت أحد أسباب انتشاره.
والحقيقة أن المدخل الذى استخدم فى مواجهة الإرهاب فى مصر بعد حادث استشهاد النائب العام قد يصلح فى حال إذا كان الخصم هو فقط عناصر تنظيم الإخوان أو أى جماعة تكفيرية أخرى، فى حين أن الواقع يقول إن الإرهاب والإرهابيين الجدد فى مصر، كما فى الكويت وتونس وفرنسا وباقى دول العالم، هم عناصر فردية ومراوغة وغير مرئية، وهى «مستجدة» فى العمل التنظيمى، وغالبا هى غير معروفة لأجهزة الأمن، وكثير منها يدخل كل يوم ساحة الإرهاب تحت تأثير خطاب المظلومية السياسية، وهو خطاب لا يمكن مواجهته بالأمن فقط إنما بمشروع فكرى وسياسى واجتماعى متكامل.
لقد مارس تنظيم الإخوان عنفا فى العهد الملكى وعهد عبدالناصر، ودخلت الدولة فى مواجهات أمنية شرسة معه، ولكن فى العهد الملكى كان هناك مشروع حزب الوفد السياسى الذى ساهم فى حصار خطاب الإخوان، وفى العهد الجمهورى كان هناك مشروع عبدالناصر الملهم من أجل التحرر الوطنى والعدالة، وأيضا رؤية السادات ومقولاته من أجل السلام وإنهاء الحرب مع إسرائيل وجلب التنمية والرخاء.
وفى كل هذه الحالات كان هناك إرهاب إخوانى، وكان هناك مشروع سياسى للدولة، مثل حائط صد أولىّ فى وجه مشروع الإخوان، جعل المعركة بين تنظيم ودولة، فانتصرت الأخيرة بكل سهولة، فى حين أن أى معركة بين دولة بلا مشروع ولا رؤية سياسية فى مواجهة تنظيم يردد مقولات سياسية ستعنى قدرة الأخير على خلق حاضنة شعبية ولو محدودة، تقدم كل يوم عناصر جديدة تمارس الإرهاب أو تتواطأ معه.
ليس مطلوبا التعامل بليونة مع الإرهاب كما يردد بعض المغرضين الذين يحرّضون من خلف شاشات التليفزيون، لأنهم يعرفون أن غيرهم من رجال الدولة الشرفاء هم الذين سيدفعون ثمن صراخهم، فى حين أن المطلوب هو تحديد طبيعة من يمارسون العنف وطبيعة البيئة التى تتواطأ معه حتى تستطيع الدولة دحره.. ويقينا أن الإرهاب الحالى يحتاج إلى إدارة سياسية وأمنية معا لا تعتمد على خطاب تغليظ العقوبة والتسريع بالإعدامات والتصفية خارج إطار القانون، لأنه سيعنى فى ظل الأداء الشرطى الحالى توسيع دائرة الاشتباه العشوائى، واعتقال مواطنين أبرياء، كما جرى من قبل، بما يعنى توسيع دائرة البيئة الحاضنة للإرهاب والدفع بعناصر جديدة لا تنتمى لتنظيم الإخوان إلى ممارسة الإرهاب.
علينا أن نتأمل متوالية العنف فى مصر وحجم الضحايا الذين سقطوا من جنود وضباط وقضاة وأبرياء لنكتشف أن معركة ناجزة ضد الإرهاب يجب ألا تحسمها انفعالات مفهومة فى جنازة شهيد، إنما خطط علمية وأمنية مدروسة تحتضنها رؤية سياسية متكاملة، تحول الجزء الأكبر من البيئة الحاضنة إلى كيان محايد أو حتى معارض سلمى، حتى تستطيع اصطياد العناصر الإرهابية.