البعض مازال يعتبر أن مشكلة مصر تكمن فى أن نخبتها لم تؤمن بأن الثورة يجب أن تكون مستمرة، وأن شبابها ترك الميدان يوم 11 فبراير 2011، وأن الشعب لم يدعم «الفعاليات الثورية» التى حاصرت الأقسام ومديريات الأمن ووزارة الدفاع، والسؤال الذى يجب أن يطرح بعد كل هذا التعثر الذى شهدناه، وبعد كل هذه الدماء التى سالت بصورة فاقت بكثير ما سقط فى الـ 18 يوما من عمر ثورة يناير: هل أزمتنا فى أننا لم نكن ثوريين كما يجب، أم أننا ندفع ثمن فقدان المسار الإصلاحى منذ يوم 12 فبراير، وهو ما سيرجعنى إلى سلسلة مقالات كتبتها بعد ثورة يناير (عن الثورات الإصلاحية والثورة ليست هدفا وغيرها الكثير)، واعتبرت فيها أزمة هذا البلد أنه لم يبن طريقا للإصلاح وليس طريقا للثورة المستمرة، وأن البعض استدعى مقولة من متحف التاريخ اسمها الثورة الدائمة أو المستمرة، ولم تطبقها دولة واحدة ناجحة فى العالم، وكانت طريقا للاستبداد وسقوط ملايين الضحايا، فى حين أن المسارات الإصلاحية هى التى بنت نظما جديدة، وقدمت بدائل وتجارب نجاح، حتى لو كان النظام الجديد جاء بعد ثورة، فإن نجاحه توقف دائما على قدرته فى بناء مسار إصلاحى يحقق التنمية والتقدم والديمقراطية.
السؤال المركزى والمنهجى الذى يجب أن يطرح: هل أنت من أنصار الثورة وتتحدث عنها باعتبارها هدفا، أم أنك تعتبرها وسيلة وفعلا اضطراريا قد تجبر عليها الشعوب فى ظروف استثنائية، ونجاحها يكمن فى قدرتها على تحويل الطاقة الثورية إلى بناء وبديل إصلاحى يساعد على تقدم هذا البلد؟.
والحقيقة أن مسؤولية فقدان المسار الإصلاحى تتحملها أطراف كثيرة على رأسها نظام مبارك الشائخ نفسه، والقوى الثورية والتيارات المدنية، وأخيرا حسابات جماعة الإخوان المسلمين الضيقة التى رأت الجماعة ولم تر الوطن.
فالمؤكد أن الشعب المصرى قام بثورة عظيمة ونبيلة، فى 25 يناير، وبقى حتى يوم 11 فبراير فى الميادين، حتى أجبر الرئيس مبارك على التنحى عن السلطة، فى 11 فبراير، وخرج شباب مصر العظيم، فى 12 فبراير، ليكنس ميدان التحرير وينظفه، فى رسالة- ولو رمزية- للجميع تقول: نعم كان هدفنا إسقاط رئيس بقى فى السلطة 30 عاما، وإجهاض مشروع التوريث، وبناء نظام سياسى جديد، وليس إسقاط الدولة ولا خطفها ولا تحويل الثورة إلى مهنة أو وظيفة، إنما فتح الباب أمام بناء نظام ديمقراطى عادل يعيش فيه الجميع بكرامة وحرية.
إن العالم لم يلتفت كثيرا لهتاف: «الجيش والشعب يد واحدة»، ولا إلى الملايين المسالمة التى نزلت الشوارع، فقد عرف العالم مظاهرات سلمية أخرى، ولكنه توقف مبهوراً (هذه هى الصورة التى تكررت آلاف المرات فى المحطات العالمية وفى صدر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة) أمام صورة شباب ثائر ينظف ميادين التحرير فى مصر، ويعلن عن طاقة بناء كامنة أهدرتها الإدارة السياسية الفاشلة وخطاب المراهقة الثورية.
ومنذ ذلك التاريخ فقدت مصر بوصلتها الصحيحة، فالغالبية الساحقة من المصريين كانت مع الانتقال إلى مسار إصلاحى، فى حين أن محتكرى الحديث باسم الثورة وثوار ما بعد الثورة اختاروا إسقاط النظام والشرعية الثورية والمحاكم الثورية والعزل السياسى.
والحقيقة أن مشهد 12 فبراير كان يقول لنا إن هناك كتلة غالبة كانت على استعداد أن تقبل بديل عمر سليمان، حتى شهر سبتمبر، (موعد انتهاء مدة مبارك الرئاسية) أو عمرو موسى أو أحمد شفيق أو كمال الجنزورى أو أى شخصية من داخل النظام، أو حتى قائد عسكرى جرىء، وتجرى إصلاحات سياسية تحت ضغط شعبى يجبر النظام على إتمامها، وبدأها مبارك تحت ضغط الملايين بتعديل الدستور تحت إشراف المستشار أحمد مكى وآخرين من تيار الاستقلال، وتم اختيار الإصلاحى حسام بدراوى على رأس الحزب الوطنى، وبدأت البلاد تستعد لانتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف قضائى كامل.
نظرية الثورة مستمرة تقول إنه لابد من إسقاط النظام ورمزه (نعم، حدث فقط فى روسيا والصين الشيوعية، وفى ليبيا «المهلبية» فى عهد القذافى)، أما المسار الإصلاحى فيرى أنه لابد أن تحافظ على مكون متماسك من النظام القديم: دستور الدولة ومؤسساتها، قوى إصلاحية، لكى تبدأ بها مع القوى الإصلاحية الموجودة خارج النظام مسار التحول الديمقراطى والإصلاح.
والحقيقة أن هذا المسار كانت ترجمته العملية أن الحزب الوطنى مستمر، بعد أن أبعد القيادات الفاسدة التى زورت انتخابات 2010 وكانت سببا فى ثورة يناير، وأنه سيضم بشكل أساسى رجالات «حزب الدولة»، الذين اعتادوا أن ينضموا إليه منذ الاتحاد الاشتراكى، ثم حزب مصر، وحتى الحزب الوطنى، بجانب شبكات المصالح التقليدية المعروفة فى الريف والقرى.
وبعد حل الحزب الوطنى وتوزيع دمائه بين القبائل وانتشار أعضائه داخل كل الأحزاب السياسية، ونتيجة حالة الاستباحة الثورية والفوضى والعشوائية، أصبحت قيادات الحزب الوطنى التى تورطت فى تزوير وفساد جزء من المشهد السياسى، بل إن بعضها خرج من الحبس، جزءاً مؤثراً فى مسار الانتخابات القادمة.
والسؤال: هل كان أفضل لمصر أن يكون هناك حزب وطنى متراجع يقوده بدراوى، ويحصل بحد أقصى على 30% فى انتخابات برلمانية نزيهة، ولا ينشغل الناس بحل الحزب الوطنى وعزل كل من فيه ولا إسقاط وزارة شفيق باعتبارها من مخلفات عهد مبارك (حتى لو صحيح) لصالح الانشغال ببناء بديل حزبى وسياسى قادر على المنافسة وتقديم سياسات بديلة لنظام مبارك وحزبه الوطنى بدلا من الانشغال بخطاب الثورة الدائمة والمطالبة بإسقاط كل شىء دون امتلاك بديل لأى شىء، ودون حتى قدرة على إدارة كشك سجائر وليس حكم بلد مثل مصر.
لقد اكتشفنا بعد استقالة حكومة شفيق أن هناك ما يقرب من نصف الشعب المصرى صوَّت له، رغم أنه كان رئيس وزراء الرئيس الذين ثاروا ضده كرد فعل عن الفوضى الثورية باعتباره رجل الدولة والانضباط والأمن.
بقى الحزب الوطنى تحت أسماء مختلفة، ولم يستطع تيار سياسى واحد فى مصر من المحسوبين على 25 يناير أن يطالب الآن بالعزل السياسى، ولا أن يقول إنه لن يضم على قوائمه الانتخابية أعضاء فى الحزب الوطنى، إنما فقط سيلفظ من تورطوا فى الفساد، وإنه من غير المعقول إقصاء مليون مواطن عن الحياة السياسية.
المسار الثورى هو الذى أوصلنا أيضا لحكم الإخوان دون دستور ودون أى قواعد منظمة للعمل السياسى، وتركنا لهم سلطة وضع دستور على مقاس الجماعة، ورفض البعض تدخل الجيش فى 3 يوليو، ونسينا أن الطريق لتدخله كان هذا الفشل والتخبط والفوضى التى شهدتها مصر بسبب المسار الثورى وشيخوخة نظام مبارك.
لو تخيلنا أياً من قيادات الدولة الإصلاحيين وصل للسلطة، فى أكتوبر 2011 بعد انتهاء مدة مبارك الرئاسية، ونجح فى أن يعيد للدولة عافيتها، وسمح للإخوان بالتواجد على الساحة، وشكَّل حكومة فيها وزيران أو ثلاثة من الإخوان، وإذا لا قدر الله وصلوا إلى تشكيل حكومة منتخبة فسيكون ذلك فى ظل دستور مدنى وأحزاب سياسية وجيش ضامن للدولة المدنية يجبر الجميع على احترام الدستور والقانون ويفصل بين الجماعة الدعوية والحزب السياسى.
نظرية «الحمد لله» لقد وصل الإخوان للسلطة حتى ينكشفوا أمام الشعب، ثمنها المجتمعى باهظ وضحاياها كثر، فى حين أن نظرية «الدمج الآمن» وفق قواعد مسبقة كانت ستجعلنا فى وضع شبيه بدول كثيرة، ومنها المغرب مثلا التى شكل فيها حزب العدالة والتنمية الحكومة، ولكن فيها نظام ملكى ودستور يضمن عدم خطف الحزب للدولة والنظام السياسى مثلما حدث فى مصر، بعد أن وصل ما سماه البعض بكل فجاجة «مرشح الثورة» محمد مرسى إلى السلطة فى مواجهة مرشح النظام القديم أحمد شفيق.
الخطاب الثورى غير المكلف بعد 25 يناير حوَّل بعض الرموز المدنية والقوى المحافظة والإصلاحية إلى ثوار يهتفون بسقوط حكم العسكر، واكتشفوا ثورية زائفة وظفوها حسب موقعهم من السلطة، فجماعة الإخوان المحافظة والرجعية، والتى ترفض كل أدبياتها فكرة الثورة، تحولت إلى ليس فقط جماعة ثورية، إنما إلى جماعة تعتبر الإرهاب عنفا ثوريا، وتذكروا خطابها أثناء حكم مبارك حين كانت هناك استكانة واستضعاف وقبول بقواعد اللعبة ومناشدة «الأب» مبارك أن يقبل الإخوان كطرف موجود فى اللعبة السياسية.
ولو كنا استمررنا فى مسارنا الإصلاحى الذى يقول إن الإنجاز ليس فى أن الثورة تسقط النظام القديم لصالح الفراغ والفوضى، أو لصالح الإخوان وحكم مؤسسات الدولة دون وسيط حزبى أو سياسى (حتى لو كان حزب الدولة)، إنما فى أن تتحول طاقة الثورة إلى مشروع لإصلاح النظام، لأن الدول الأكثر تقدما هى التى يتغير فيها النظام بالإصلاح وليس بالمظاهرات الثورية، ومصر كانت فى البرزخ، أى فى مكانة وسط بين نظم ديكتاتورية مثل القذافى وبشار الأسد وصدام حسين وبين دول أخرى تعثرت، وكانت المظاهرات سبباً فى تغيير حكومتها أو تقويم مسارها وإصلاحه.
مسار مصر الإصلاحى الذى فقدناه كان يعنى وجود حزب حاكم انتقل للمعارضة أو المشاركة مع آخرين فى حكم البلاد، ولا يعنى أن الدولة تحكم بشكل مباشر دون أى وسيط سياسى وحزبى بكل ما يمثله ذلك من أخطار على الدولة نفسها، كما يعنى ثانيا أن هناك «إخوان» ينتظرون شروط دمجهم القاسية التى ستحول دون وصولهم للسلطة، قبل أن يصبحوا حزبا محافظا لا علاقة له بالجماعة ويلتزم بالدستور والقانون ودور ضامن وليس حاكما للجيش.
لقد فقدنا فرصة المسار الإصلاحى الأول، فأرجو ألا نفقد الفرصة الثانية، حتى لو كنا فى وضع أكثر صعوبة من الفرصة الأولى.