حين تحدث فى مصر أزمة أو تعثر أو فشل ينبرى كثيرون بالقول إن المشكلة فى الشعب، وإنه لابد من وجود وصى عليه دينى أو وطنى، وإذا اختار الشعب الخيار الذى يريده الأوصياء يتحول من الشعب الجاهل إلى الشعب المصرى العظيم.
والمؤكد أن هناك مشكلات اجتماعية فى مصر أكبر من مشكلات كثير من الدول التى بدأت تحولا متأخرا نحو الديمقراطية، فنسبة الأمية فى مصر (حوالى الثلث) تفوق النسبة التى عرفتها إسبانيا والبرتغال لحظة تحولهما نحو الديمقراطية فى منتصف السبعينيات (15% فى الأولى و20% فى الثانية)، وأيضا كل دول أوروبا الشرقية، وهى أيضا أعلى من تجربة النجاح الوحيدة فى دول الربيع العربى، أى تونس التى تبلغ نسبة الأمية فيها حوالى 15%.
ورغم تلك المشاكل والعقبات فإن المسار الذى بدأته مصر منذ الثورة حتى الآن أثبت أن خيارات الشعب المصرى كانت لا تدل على أنه شعب جاهل، وأنه لم يكن دائما على خطأ كما يتصور البعض، وأن المشكلة كانت فى المسار الخطأ الذى دخلته البلاد عقب الثورة، والذى كان أقرب لوصفة فشل، وتتحمله النخب والثوار والإخوان ومن أداروا المراحل الانتقالية وليس الشعب.
فحين تجمع الناس من أجل إسقاط مبارك كان هناك حس شعبى غير مسبوق ضد الظلم والاستبداد جمع ملايين البشر، وحين اختار البعض أن يحول الثورة إلى «فعاليات ثورية» وتظاهرات أسبوعية ابتعد عنهم الناس وتحول المشاركون إلى بضعة آلاف.
إن الخلل فى التعامل مع الشعب المصرى بدأ من النظرة الفوقية التى صبها البعض على موقفه من استفتاء مارس 2011 بتعديل دستور 71 حين وافق الشعب بنسبة 77% على التعديلات، وتصور البعض أن «نعم الشعبية» كانت بسبب ارتفاع نسبة الأمية والدعاية الدينية، وقد يكون ذلك سببا، ولكن المؤكد أن هناك أسبابا أخرى أهم دفعت غالبية الشعب المصرى للتصويت بـ«نعم» تتعلق برغبته فى أن يتقدم خطوة كبيرة للأمام بإصلاح القديم وليس هدمه. والمفارقة أن الإسلاميين والإخوان هم الذين لبسوا ثوب إصلاح الدستور القديم الذى لم يكتبوه وهُمشوا فى ظله (أى دستور 71)، فى حين أن التيارات المدنية (التى كتبت هذا الدستور) هى التى تبارت من أجل التصويت بـ«لا»، فلم تكن المشكلة لدى الشعب، إنما فيمن تصوروا أنهم أوصياء عليه.
وتكرر الأمر بعد ذلك مرتين، الأولى فى البرلمان، والثانية فى الرئاسة، فحين حصل الإخوان والتيارات الإسلامية على 70% من أصوات البرلمان السابق كانوا هم الذين ارتدوا ثوب الإصلاح والاعتدال وليس الثورية الصاخبة، وتواصلوا مع الناس على الأرض ولو عبر خطاب دينى، فنالوا ثقة أغلبية الشعب، وحين شاهد معظم من انتخبوهم أداءهم «البرلمانى» كانوا أول من هلل لحل البرلمان.
وحين عرفت البلاد انتخابات الرئاسة الأولى لم يستطع مرشح الإخوان الحصول على أكثر من 51.5% من الأصوات، لأن المنافس رغم أنه كان رئيس وزراء مبارك الذى ثار عليه أغلب الشعب، إلا أنه كان رجل دولة وليس رجل الثورة الدائمة، فحصل على 48.5%، ولو أحسنت القوى المدنية ترتيب أوراقها لفاز عمرو موسى أو أحمد شفيق بهذه الانتخابات، رغم سطوة الخطاب الثورى والحديث الصاخب عن الفلول و«الفلولية»، جنباً إلى جنب مع خطاب الإخوان، ولم يكن الشعب جاهلا حين صوّت بهذه النتيجة.
المؤكد أن هناك أسبابا موضوعية دفعت قطاعا واسعا من الشعب المصرى إلى أن يراهن على الإسلاميين بهذه النسبة فى تجربتين انتخابيتين على طريقة «دعنا نجربهم ونرَ بعد استبعادهم 80 عاما»، فكان جزاؤه أن اتهم بالجهل والأمية.
ولعل هذا ما كتبته قبل الانتخابات البرلمانية الأولى التى أعقبت ثورة يناير فى 16 نوفمبر 2011، فى مقال «ثقوا فى الشعب المصرى»، وجاء فيه: «إن حصول الإسلاميين على الأغلبية من عدمه أمر فى يد المصريين، فقد يفوزون مرة كما جرى، ولكنهم بالتأكيد لن يظلوا فائزين (على طول)، وإن ضمان كتابة الدستور بعيدا عن الفائز والخاسر فى الانتخابات هو وحده القادر على إنجاح التجربة الديمقراطية بمشاركة الإسلاميين، أما إذا تعامل التيار الإسلامى على أن الدستور هو جائزة للتيار الذى سيفوز فى البرلمان فإنه بذلك يكون أول من وضع الأساس الموضوعى لانصراف الناس عنه، لأنهم لن يقبلوا احتكار إرادة الأمة، وأن كل البدائل ستكون مشروعة لمواجهة خطر خطف الدولة والدستور من قبل بعض الطامحين فى التيار الإسلامى، وليس حكمها بالوسائل الديمقراطية التى تضمن للآخرين فرص تغييرها».
والحقيقة هذا ما فعله الإخوان، أى «طموح من أجل خطف الدولة والدستور»، وهذا ما فعله الشعب فى انتفاضة 30 يونيو، أى «كل البدائل مشروعة لمواجهة هذا الخطر».
وحين أجريت انتخابات الرئاسة الأخيرة، وبعد مرارة حكم الإخوان، والتهديدات التى مثلها حكمهم لمبادئ الدولة الوطنية، ورفضهم القبول بأى حلول وسط مع القوى المدنية المعارضة، وفى ظل شبح الاقتتال الأهلى الذى تعرضت له مصر، كان منطقياً أن ينتخب أكثر من 80% (إذا استبعدنا أصوات اليوم الثالث، الذى مدته اللجنة العليا للانتخابات دون أى مبرر)، من أبناء الشعب المصرى رجل الدولة والجيش القوى عبدالفتاح السيسى، بعد أن شعروا بالخوف الذى هدد وجودهم، وعاد من اتهمهم بالجهل على اختيارهم الأول فى عهد مرسى واعتبره «شعب مصر العظيم» لأنه انتخب رجل الدولة أو الضرورة بتعبير «هيكل».
والغريب أن أنصار الإخوان، الذين تحدثوا عن الشعب المسلم العظيم المتعطش لمشروع الإخوان حين انتخب أكثر بقليل من نصفه محمد مرسى، اعتبره بعض خصومهم من التيارات المدنية أن هذا الشعب ضحية الفقر والجهل والزيت والسكر، وحين عاد نفس هذا الشعب وأسقط حكم الإخوان عادت نفس التيارات واعتبرته شعبا عظيما لا يقهره أحد، وحين انتخب السيسى بنسبة كاسحة بعد أن شعر أغلبه بتهديدات وجودية اعتبره أنصار الإخوان شعبا مضللا وعبيدا لـ«العسكر».
لم يختر الشعب المصرى منذ ثورة 25 يناير نتيجة جهل، وهو قادر على أن يُخرج أفضل ما فيه لو وُضع أمامه مشروع يؤسس لدولة قانون عادلة وديمقراطية، لا أن نستمر فى الوصاية عليه ونتهمه بعيوب مسؤول عنها أساسا من حكموه أو تحدثوا باسمه.