قدم د. عبدالمنعم أبوالفتوح مبادرة وصفها بأنها مجرد رؤية للخروج من الأزمة السياسية التى تمر بها البلاد، وأثارت بعض الاعتراض وبعض التأييد وكثيراً من الهجوم والاتهامات، وكأن المطلوب أن يغيب النقاش العام فى مصر لصالح اتهامات التخوين والتكفير والسباب، واستمرار حالة الخوف من أى رؤية حتى لو كانت لن تطبق ولن يوافق عليها أغلب الناس.
والحقيقة أن هذه الرؤية جاءت من زعيم حزب شرعى ومرشح رئاسى سابق لم ينكر انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين لأكثر من 30 عاما، وكان أحد وجوهها الإصلاحية، وكثير من أعضاء الحزب كانوا أيضا أعضاء سابقين داخل جماعة الإخوان وانفصلوا عنها تنظيميا، وهو ما أثار حفيظة وتوجس جزء كبير من المجتمع المصرى الرافض للإخوان، بل إن كثيرا منهم اعتبر أن أى انتماء ولو فى الماضى للجماعة يعنى الإصابة بفيروس إخوانى أبدى لا يمكن العلاج منه.
والمؤكد أن ممارسات جماعة الإخوان وحملات التحريض والشماتة فى ضحايا الشعب المصرى عمّقت الشرخ المجتمعى بين أغلبية الشعب المؤيدة للرئيس السيسى والأقلية المعارضة التى يمثل أبوالفتوح أحد رموزها.
ورغم حدة الهجوم على الحزب ورئيسه باعتباره عضواً سابقاً فى جماعة الإخوان المسلمين إلا أنه يحسب له ولحزبه أنهم لم يركبوا موجة السلطة فى أثناء حكم الإخوان ولا بعدها، فلم يتحالفوا مع مرسى من أجل مقاعد فى مجلس الشورى أو الوزراء أو الرئاسة، وعارضوه بطريقتهم وشاركوا فى انتفاضة 30 يونيو، ولكنهم رفضوا ترتيبات 3 يوليو، وانطبق عليهم ما سبق أن وصفته فى مقال سابق بالرواية الثانية فى فهم ما جرى فى مصر عقب 3 يوليو.
واستندت مبادرة أبوالفتوح على شقين: الأول حقوقى مستمد من مفهوم العدالة الانتقالية ويطالب بالقصاص للضحايا، واتخاذ إجراءات تخص الحقوق والحريات، منها «الإفراج الفورى عن كافة المحتجزين تحت الحبس الاحتياطى غير المدانين فى قضايا الإرهاب والقتل، والإفراج الفورى عن الطلاب والسيدات وكبار السن وذوى المشاكل الصحية الواقعين تحت الحبس الاحتياطى».
واقترح إعادة النظر فى «كافة الأحكام الصادرة بحق المحكوم عليهم خلال الفترة الماضية، وإصدار عفو عام عن قيادات كافة التيارات المعارضة التى لم يثبت بدلائل واضحة معلنة تورطها فى أى جريمة».
ودعا إلى مصالحة شاملة قائمة على العدل الذى يسمح بالتعويض القائم على الرضا لا القهر والجبر، على حد قوله.
وشدد على ضرورة تفعيل ميثاق شرف إعلامى بين وسائل الإعلام والحكومة والأحزاب «بشكل يحافظ على الحريات ويمنع بث الكراهية أو التحريض».والمؤكد أن هذا الجزء قد يقبله معظم المعارضين وبعض المؤيدين، وتبقى المشكلة الرئيسية فى الشق الثانى من طرح د. أبوالفتوح الخاص بالانتخابات الرئاسية المبكرة، والذى يمكن وصفه بأنه كان طرحا إخوانيا بامتياز منفصل تماما عن الواقع المعاش.
والحقيقة أن هذا الشق من رؤية رئيس حزب مصر القوية حذفته جريدة «التحرير» التى نشرته فى صورة مقال علق عليه الزميل الأستاذ أنور الهوارى بعد ذلك بالقول إن السيسى يمكن الاختلاف معه فى أشياء كثيرة إلا «دوره البطولى» فى 3 يوليو (الذى يعتبره مصر القوية انقلابا) فى تخليص مصر من حكم الإخوان، وأن شرعيته كرئيس منتخب ليست محل نقاش، وهو رأى قطاع غالب من الشعب المصرى مازال يدعمه بحماس وحدة.
والمؤكد أن من حق تيارات أخرى فى أى بلد يريد أن يصبح ديمقراطيا أن تطالب بانتخابات رئاسية مبكرة دون أن تعتبر خائنة أو عميلة، حتى لو كانت هناك استحالة لتحقيق هذا الطرح الذى ستكون نتيجته محسومة لصالح عبدالفتاح السيسى من الجولة الأولى.
وهنا ليس مطلوبا إقناع رئيس حزب مصر القوية بوجهة النظر المؤيدة لمسار 30 يونيو برمته، إنما بتأثير «الخطوة الافتراضية» للانتخابات المبكرة على المسار السياسى والديمقراطى فى البلد كله.
والحقيقة علينا أن نتخيل مشهد إجراء انتخابات رئاسية مبكرة يشارك فيها الإخوان بحالتهم الحالية وبخطابهم الإرهابى فى مواجهة خطاب آخر يعتبرهم قوة احتلال يجب استئصالها، النتيجة ستكون تحول التعبئة الانتخابية والسياسية فى ظل حالة الاحتقان والانقسام الحالية إلى اقتتال أهلى.
إن أول شروط الانتخابات الحرة والنزيهة هو التوافق السياسى على منظومة قيم دستورية وقانونية، وهو حاليا غير موجود بصرف النظر عمن المسؤول عنه، وأننا لم نسمع عن انتخابات يعتبر فيها كل طرف خصومه السياسيين خونة وعملاء وانقلابيين بنت أى ديمقراطية.
المؤكد أن فى مصر مسارا سياسيا متعثرا ونظاما سياسيا يرتكب أخطاء تقابله عمليا أطراف حزبية وسياسية فى غاية الضعف (بصرف النظر أيضا عمن المسؤول)، وظهير شعبى كبير يعتبر حتى البرلمان والأحزاب تعطل جهود الرئيس، وأن السياسة أضاعت البلد وكادت تضعه فى براثن الفوضى والانهيار، وأن مؤسسات الدولة ليست بعيدة عن هذا الظهير الشعبى وقريبة من خطابه أو مساهمة فيه، فيصبح هناك استحالة تصور قبول ولو نظرياً لفكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة أو المساس بشرعية الرئيس.
الأفضل لمصر وللمسار الديمقراطى أن يكون فيها دولة ونظام ولو غير ديمقراطى بدلا من لا نظام ولا دولة، لأن الأول يشجع القوى السياسية الديمقراطية على المناكفة والضغط على السلطة من أجل أن تبنى تحولا ديمقراطيا، أما «لا دولة» فهو أمر قد يكون مريحاً للجماعات السرية المغلقة مثل الإخوان لا للشعب المصرى.
إذا استطاعت القوى السياسية المعارضة، ومنها مصر القوية، تقديم نموذج سياسى بديل يقدم رؤاه فى السياسات العامة، ويطرح بدائل لسياسات الحكم باعتباره حزبا وليس تجمع نشطاء حقوقيين، ولا ينازع السلطة القائمة فى معركة سيخسرها بالضربة القاضية إنما يعتبر أن معارك كل التجارب الناجحة هى معارك بالنقاط.
مصر ليست بحاجة لانتخابات رئاسية مبكرة لا يجد من فى السلطة ولا أغلب الشعب مبرراً للتفكير فيها، إنما هى بحاجة إلى انتخابات رئاسية تعددية حقيقية بعد أقل من 3 سنوات، وأحد شروط تحقيق ذلك أن تنجح القوى السياسية فى الحفاظ على معركة الوجود والإيمان بالديمقراطية، أو سيبقى الوضع على ما هو عليه لعقود أخرى، أى بلد مأزوم لا يقدم حكمه أى إصلاحات، وتطرح معارضته مبادرات لا تؤثر فى الواقع ولا فى السلطة.