نعم لدينا قضاء شامخ يحرص على ان ينقى ثوبه من الدنس اولا بأول كى يبقى الثوب ناصعا شاهق البياض، ولدينا قضاة أجلاء مثقلون باعباء فوق طاقة البشر فى كل مراحل القضاء، الابتدائى والاستئناف والجنح والجنايات والنقض إضافة إلى الهيئات القضائية الاخرى المتمثلة فى قضاء الدولة الادارى والمحكمة الدستورية العليا..،لكن مع الاسف لدينا نظام للتقاضى لم ينجح فى تحقيق العدالة الناجزة، فالعدالة فى مصر لاتزال كسيحة يتأخر فيها الانصاف طويلا، لان القضية التى تنظرها المحكمة الابتدائية تستغرق فى المتوسط ثلاثة أعوام يمكن ان ترتفع إلى سبعة، وفى المحاكم الجنائية يطول الامر إلى عشره سنوات، اما فى محكمة النقض فيمكن ان يطول عمر القضية إلى اكثر من 15عاما، وهى مدد زمنية طويلة قياسا على امد التفاوض فى اى نظام قضائى آخر تؤخر العدل وتعطل استرداد الحقوق وتنتقص أساس الملك.
ولان عملية التقاضى فى مصرتشكل منظومة بيروقراطية شديدة التعقيد والتشابك، يتداخل فيها أصحاب الحقوق والقضاة والنيابة العامة والمحامون والمدعى عليهم وأجهزة معاونة عديدة يتصدرها المحضرون والخبراء والعاملون فى الادلة الجنائية والمسئولون عن تنفيذ الاحكام وقبل هؤلاء جميعا ألاف القوانين واللوائح التنفيذية، فربما يكون صعبا ان نعزو كل اسباب بطء التقاضى فى مصر فقط إلى نقص اعداد القضاة قياسا إلى اعداد القضايا التى تنظرها المحاكم والذى يقدره البعض فى حدود 4الاف قاض، لان الامر يتطلب إصلاحا شاملا لمنظومة التقاضى بكل عناصرها، وواقع الحال يقول ايضا ان تحقيق العدالة فى مصر يمثل رحلة شاقة شديدة العناء لايستطيع ان يخوضها وصولا إلى احقاق الحق أكثر من 50% من المتقاضين،لان نصف الاحكام التى يصدرها القضاة لاتجد طريقها إلى التنفيذ!.
وتكشف الارقام الرسمية ان عدد القضاة فى مصر يصل إلى ما يقرب من 9 الاف قاض فى المحاكم الابتدائية والاستئناف إضافة إلى 670 قاض هم عدد قضاة محاكم النقض، كما تقول الارقام ان عدد القضايا المدنى فى الابتدائى يصل إلى حدود 360الف قضية فى العام بنسبة فصل لاتتجاوز36%، وعدد قضايا الجنايات يصل إلى 217الف قضية بنسبة فصل49%،وعدد قضايا المحاكم الابتدائية يصل إلى مليون و850 الفا بنسبة فصل تصل إلى 53%، كما أن عدد قضايا المحاكم الاسرية يصل فى المحاكم الابتدائية إلى مليون و500الف قضية بنسبة فصل 70%، اما بالنسبة لاعداد القضاة فتبلغ عدد قضايا الجنح الابتدائى 7 ملايين و900الف قضية موزعة على 6450 قاضيا بمتوسط 1620قضية فى العام بنسبة لكل قاض، وفى قضايا النقض مدنى وجنائى يصل عدد القضايا إلى 57 الف قضية موزعة على 670 قاضيا هم عدد قضاة النقض!.
واظن ان عدد القضايا منسوبة إلى عدد القضاة فى كل مرحلة من مراحل التقاضى يؤكد لنا أن غالبية القضاة يعملون ليل نهار، ومع ذلك فان معوقات الفصل فى القضايا تكاد تكون السبب الاهم والاكثر تأثيرا من نقص أعداد القضاة، لان أغلبها يتعلق بتشريعات بالية لم يعد يصلح معها التنقيح والتعديل بعد ان بليت على نحو شديد من كثرة الترقيعات والتعديلات خاصة ما يتعلق منها بأربعة قوانين اساسية مهمة، اولها قانون العقوبات فى الفصول المتعلقة بقضايا المخدرات وحيازة الاسلحة، ويتعلق ثانيها بقانون الاجراءات الذى ينظم عملية التقاضى وحدود وادوار واختصاصات القاضى والمحامى وصاحب القضية وصولا إلى الحكم، ويتعلق ثالثها بقانون المرافعات المدنية والجنئاية، اما رابعها فيتعلق بقانون الاثبات الذى يمكن صاحب القضية من اثبات دعواه امام القاضي، أخذا فى الاعتبار ان الاصلاح المطلوب لهذه القوانين اصلاح جذرى حقيقى ينشئها من جديد.
والامثلة على ذلك كثيرة وعديدة أكثرها وضوحا، ان قانون العقوبات نشأ فى ظل ظروف اجتماعية مغايرة كان يسود فيها المجتمع نظام صارم للقيم لم يكن يسمح بظهور نوعيات جديدة من الجرائم المستحدثة يقف الان امامها القانون عاجزا لا يملك اية سلطة ردع حقيقية، وربما يكون من حقنا ان نسأل، هل تكفى سبع سنوات سجن التى تمثل اقصى العقوبة لمتهم ثبت انه رش وجه فتاة بمياه النار لانها رفضت ان تتزوجه فافقدها البصر وشوه معالم وجهها بصورة منفرة ليفقدها جمالها؟، وماذا تعنى عقوبة سبع سنوات سجن ردعا لجريمة تصل فى بشاعتها إلى الاعدام، لان الجريمة لم تتوقف عند إحداث عاهة مستديمة لا يرجى شفاؤها، وانما تخلف عنها بالضرورة اثار نفسية لم ترق قواعد القانون إلى الحدود التى تتطلبها إعادة تأهيل المجنى عليها او تمكينها من الاندماج فى المجمتع، لان مفهوم التعويض فى نظام التقاضى فى مصر قاصر ومتواضع لايلبى الحد الادنى المطلوب لاعادة تأهيل الضحية، كما ان العقوبة بحدها الاقصى لا تشكل رادعا حقيقيا للجريمة إلى الحد الذى يمنع ارتكابها الامر الذى ربما يتطلب رفع العقوبة إلى حد الاعدام لان هذه الجريمة فى جوهرها هى جريمة قتل متعمد..،وهذا مجرد مثال واحد لاوجه قصور عديدة فى قانون العقوبات تجعله عاجزا عن مواجهة الجرائم المستحدثة فى المجتمع على نحو رادع، واظن ان كل الذين تعاملوا مع قضايا الارهاب يعرفون على وجه اليقين ان قانون العقوبات يعنى بحقوق المتهمين بارتكاب هذه الجرائم بأكثر مما يعنى بحقوق الضحايا، ليس فقط فى مجالات توفير حق الدفاع عن المتهم ولكن فى مجال ردع الجريمة وتعويض المجنى عليهم.
أما اوجه القصور فى قانون الاجراءات فكثيرة ومتعددة تفتح عشرات الثغرات للتهرب من احكام القانون، وتستنزف الوقت والجهد فى غير طائل، وتمكن اى محامى ان أراد تعطيل نظر الدعوى من تحقيق هدفه إلى حد ان اعلان اطراف قضية واحدة باجراءات سير الدعوى كى تنعقد الخصومة استغرقت أكثر من 15عاما فى أمثلة شهيرة يعرفها القضاة والمحامون.
واول اوجه القصور فى قانون الاجراءات انه لا يزال يلزم القاضى بسماع كل الشهود الذين يريد المتهم سماعهم، وغالبا ما تكون شهادات غير منتجة لاتفيد القضية فى كثير او فى قليل، لكن الهدف منها اطالة أمد التقاضي..، وفى كل قوانين اجراءات التقاضى يراعى فى العالم أجمع التوفيق بين حق المتهم فى الدفاع عن نفسه وطلب الشهود الذين يريد سماعهم وحق المحكمة فى ان تستمع لمن ترى ضرورة الاستماع إلى شهادته لقطع الطريق على كل من يريدون تعويق وتأخير الدعاوى بحجة سماع الشهود.
وفى قانون المرافعات ثمة ما ينص على ضرورة إعلان الخصوم فى القضية من جديد فى حالة انقضاء سير الدعوى او شطبها او تعليقها بسبب الاجازات أو وفاة المدعى أو المدعى عليه، بما يزيد من أمد التقاضي، على حين تنص اجراءات قوانين المرافعات فى معظم دول العالم على الاكتفاء باعلان من لم يتم إعلانه فى اول الدعوي، أما قانون الاثبات فتحتاج معظم بنوده إلى التصويب خاصة ما يتعلق منها بشهادة الخبراء والاستماع إليهم.
وأظن ان الجميع يعرف ايضا ان أولى مشكلات التقاضى فى مصر هى اعلان المتهمين والشهود والمدعى عليهم لان الخصومة لا تنعقد إلا بتمام الاعلان الذى لايزال يعتمد على نظام المحضرين بكل الوان قصوره المعروفة، ابتداء من (بلص) المحضر كى لايقوم بواجبه فى اعلان الشهود على عناوينهم الصحيحة!، ومع الاسف لايعترف نظام التقاضى المصرى بالاعلان عن طريق الهاتف رغم انه معتمد فى معظم دول العالم خاصة فى قضايا (المدني)،حيث من النادر ان توجد خصومات غرباء فى قضايا المدنى لان كل الخصوم غالبا ما يكونوا من الاقارب أوالشركاء..،كما لايعترف نظام التقاضى فى مصر بالاعلان عن طريق أجهزة الاعلام وهو امر معترف به فى دول العالم اجمع لانه يختصر كثيرا من الوقت..،وفى دولة الامارات يوكل امر اعلان اطراف القضية إلى شركة خاصة تقوم بالمهمة لقاء مقابل لاتحصل عليه الشركة إلا بتمام الاعلان الصحيح بحيث يكون الاعلان منتجا لاثاره الكاملة على النحو المبين فى القانون.
لقد كنا نأمل ولا نزال فى ان تكون العدالة الناجزة محل نقاش عميق فى مجلس النواب يتعاون فيها مع وزارة العدل، يتوفران على دراسة القضية من جميع جوانبها ويعيدان النظر فى القوانين الاربعة (العقوبات واجراءات التقاضى وقانون الاثبات وقانون المرافعات) التى ثبت عن يقين وجود عشرات الثغرات التى تسمح بالتحايل وإطالة امد التقاضى دون مسوغ حقيقى تحتاجه العدالة، آخذا فى الاعتبار ضرورة محاولة سد العجز فى اعداد القضاة وهو امر صعب خاصة فى مراحل التقاضى المتقدمة التى تحتاج بطبيعتها إلى خبرة قانونية وتجربة عمر فى تدرج متصاعد إلى ان وصل صاحبها إلى هذه المرتبة التى تمكنه من الجلوس فوق منصات محاكم الاستئناف والنقض والدستورية. لكن صدور حكم القاضى من فوق منصته العالية لايعنى ان العدالة الناجزة قد تحققت، لان العدالة الناجزة لاتتحقق بالفعل على ارض الواقع ولاتصبح حقيقة مؤكدة ما لم تأخذ هذه الاحكام طريقها الواضح والصحيح والمباشر إلى التنفيذ..، ومع الاسف فان أقل من نصف الاحكام التى يصدرها قضاة مصر هى التى يتم تنفيذها!!، ام الباقى فهى مجرد احكام على الورق فى الادراج المغلقة يتعطل تنفيذها لقائمة طويلة من التعللات والذرائع التى ينبغى ان تكون غير موجودة، تبدأ بنقص الامكانات والتى هى فى الاغلب تكون إمكانات شرطية سببها عدم جاهزية قوة التنفيذ التى تفرض تنفيذ الاحكام بالقوة الجبرية متى امتنع اصحاب هذه الاحكام عن تنفيذها طوعا بحكم القانون، وتنتهى بذريعة غامضة من سطر واحد تكفى لاسقاط اى حجة مقابلة مفادها (الحالة الامنية لاتسمح)، وربما استطيع ان أدل هنا السيد وزير الداخلية على وصفة سحرية تمحو فى لمح البصر أزمة الثقة بين الشرطة والشعب!، إذا خرج علينا الوزير ببيان شفاف يكشف عدد الاحكام التى لم يتم تنفيذها ونسبة الاحكام التى لم تنفذ بسبب نقص امكانات الشرطة،وعدد الاحكام التى لم تنفذ بسبب الحالة الامنية، وهل هذه النسب فى حالة صعود ام فى حالة هبوط وما هو السبب، ولا يشكل عذرا للداخلية ان عددا غير قليل من الاحاكم التى لايتم تنفيذها يصدر ضد الحكومة فالحكومة اول من ينبغى أن يرضخ لتنفيذ حكم القانون!، لكن إلامر الذى لا شك فيه ان حصول مواطن على حكم قضائى بانصافه بعد رحلة مضنية شاقة تطول عددا من السنوات ثم يجد ان الحكم الذى صدر لصالحه لم يتم تنفيذه يوغر الصدور ويترك فى القلوب ضغائن دون مسوغ ويزيد من أثقال الحكم ومواجعه.
ولاننى لا اشك مطلقا فى عدالة الرئيس عبدالفتاح السيسى فربما اتجاسر على القول بانه لامفر ولا منص ولامهرب من ان تكون دولته عادلة، عدالة من نزل من علياء الحكم ليفتح باب السيارة لفتاة عاملة شريفة استقبلها فى القصر الرئاسى لانها تستحق التكريم..،ولكى تكون دولة السيسى عادلة، يتحتم رد الحقوق لاصحابها فى الوقت المناسب وبالسرعة الواجبة حفاظا على قيمتها الحقيقية كى يطمئن كل مواطن بأنه سوف يجد فى القانون وتطبيقه من يرد عنه الظلم إذا وقع ويرد إليه حقوقه الضائعة.
ويبقى ان نؤكد بعض البديهيات التى سقطت منا سهوا لتصيب العدالة فى مقتل بفعل عدم التدقيق اوالاستهانة او نتيجة أعراف خاطئة رسخت سلوكا بيروقراطيا ينبغى اعادة النظر فى سلوكها..، اول هذه البديهيات انه لا يجوز اعلان توقيع عقوبة دون إعلام صاحبها وبصورة كافية تحفظ كرامته..، واظن ان الاكرم للمواطن المصرى ان يخطر اولا إذا صدر ضده قرار من النائب العام بمنع سفره او وضعه على قوائم الترقب والانتظار، كما ان سلطات كل موظف عام له الولايه العامة والخاصة يبنغى ان تخضع للمسائلة وحكم القانون متى اخل بواجبته الاساسية، لان ثمة وظائف عليا فى الدولة انتزعت لنفسها سلطات شبه مطلقة قسرا اعتمادا على عرف خاطئ او تفسير مغلوط!، لان الاصل والبديهى والمعقول ان كل سلطة يقابلها مسئولية وكل مسئولية ينبغى ان تخضع للمساءلة.
وخلاصة القول ان تحقيق العدالة الناجزة هو حق من حقوق الانسان المصرى ينبغى احترامه كى نظفر بمجمع يسوده العدل، وان تيسير اجراءات التقاضى واجراء التعديلات المتطلوبة، على القوانين الاساسية الاربعة على نحو عاجل امر ضرورى كى يثق المصريون فى عميلة التقاضى ويطمئنون إلى سلامة وسرعة أجراءاتها، لان رئيس الجمهورية لن يتمكن وحده من اقامة العدل، فالعدل مرفق مهم من مرافق الدولة إن لم يكن اهمها،لان العدل اساس الملك ينبغى ان يحرص الحكم على حسن تنظيمه وسيره كى تتحق العدالة الناجزة، ولا يعفى الحكم من مسئولية العدل انه اوكل المهمة إلى جهاز قضائى إذا كان الجهاز مثقلا بالمشكلات، تحكمه بيروقراطية بطيئة يهمها تسوية الاوراق وتسديد الخانات بأكثر من اقامة العدل..، وما من شك فى ان العدالة الناجزة هى عنوان الحكم وهى اكليل غار يتوجه، غيابها يحجب عن الحكم اخص سماته الخيرة ويضاعف من مشكلاته ويحملها باكثر مما يستطيع ان يحتمل.
لكن ثمة حقيقة اخيرة ينبغى ان تكون فى الحسبان، مفادها ان تأخير تحقيق العدالة الناجزة فى مصر لايعود إلى نقص الامكانات فوزارة العدل تكاد تكون وزارة موارد يتحقق لها قدر وافر من الايرادات نتيجة رسوم التقاضى التى تحقق فائضا كبيرا يذهب نسبة لابأس بها منها إلى الخزانة العامة، وتكفى وتزيد لاصلاح المحاكم وتجهيزها وضمان نظافتها وحسن مظهرها وإنصاف العاملين فيها!، فالعدالة فى مصر ليست مجانية، ونصف رسوم التقاضى فقط هى التى يتم انفاقها على مرفق العدالة..، ومن ثم لا عذر ولا ذريعة لمن يتأخرون عن اصلاح مسيرة التقاضى فى مصر بما يضمن عدالة ناجزة تحقق الانصاف لكل مظلوم وصاحب حق بالسرعة الواجبة باعتبار ذلك حقا أصيلا من حقوق الانسان المصرى التى ينبغى احترامها.
المصدر : صحيفة الأهرام