الأغلبية الساحقة من الناس،وجمع واسع من السياسيين والمثقفين يعتقدون ان الازمة التى تمر بها مصر الآن هى فى جوهرها مشكلة أخلاقية، تفاقمت مظاهرها فى سلوك عشوائى يفتقد الاساس الاخلاقى ولايُعنى بالقيم التى نشأت عليها أجيال متتابعة من المصريين، تعودت على احترام الكبير، وتبجيل المعلم، ورعاية الجار وتقديس العمل والواجب، ونصرة الضعيف، وإغاثة الملهوف، والتكاتف فى مواجهة الازمات والتحديات، ورعاية اليتيم، ورفض المال الحرام، والحفاظ على صلة الرحم، إلى آخر هذه القائمة من منظومة القيم التى ضبطت سلوك المصريين ونظمت علاقاتهم بأنفسهم والدولة والمجتمع، وشكلت إرثا تربويا حافظت عليه الاسر والعائلات عبر أجيالها المتتابعة.
ولانه لاشيء ثابتا وباقيا ومطلقا سوى الله وما عداه حادثا وطارئا وفانيا لا يستقر على حال ابتداء من الميلاد إلى الفناء بما فى ذلك الاخلاق، اندثرالكثير من قيمنا الاصيلة تحت وطأة الفقر والزحام، وبفعل رياح التغيير القادمة من الجنوب خلال الحقبة البترولية، والقادمة من الشمال بتأثير الهجرة بحثا عن حياة افضل فى دول أوروبا،ومن المؤكد ان التغييرات المتسارعة التى طرأت على أنظمة الحكم وخياراتها السياسية من الإقطاع إلى الرأسمالية، ومن الملكية إلى الجمهورية، ومن الاشتراكية التى تعنى بالقطاع العام إلى الليبرالية الاقتصادية، التى تركز على المشروع الخاص،كان لها أثرها فى اختفاء قيم تلاشت واندثرت، وظهور قيم أخرى أثرت على سلوك المصريين خاصة بعد ان ضعف دور البيت والمدرسة والمعلم والشيخ وتنامت أدوار الشلل والأصدقاء والسينما وباقى مؤسسات الاعلام.
توحش الصراع على المال إلى حد ان الابن بات يقتل أباه وأمه وجده، وفقدالمال العام حرمته ليصبح نهبا للمرتشين والسارقين أصحاب الذمم الخربة، وانقطعت جسور التواصل بين الاجيال، الشباب يرفض أفكار الآباء ويعتقدون انهم وحدهم يملكون الحقيقة والحل الصحيح وما عداهم خاطئا ومتخلفا ينبغى التخلص منه!، وساد الاضطراب كل مناحى المجتمع، الاولتراس الرياضى يعمل بالسياسة ويوظف نفسه لصالح جماعات دينية وسياسية، والنقابات تحولت إلى أحزاب يسيطر عليها أقليات من الناشطين السياسين، بينما تحولت الاحزاب إلى مجرد اندية مغلقة على جماعات وشلل بعينها تكاد تغلق أبوابها فى وجه الشباب الذى يمارس انشطته السياسية فى الاغلب خارج الاحزاب، وساد الغش التجارى وأصبح له مصانع وورش تحت بير السلم، تنتج كل شيء بما فى ذلك الادوية ومستحضرات التجميل وصنوف الاغذية الملوثة دون خوف من الله أو رادع من الضمير، واختفت المدرسة، هجرها التلاميذ والمدرسون إلى نظام مواز تحت اسم مراكز تعليمية هى فى جوهرها تقنين للدروس الخصوصية بعد ان تجاوزت اعداد التلاميذ فى الفصل الواحد حدود 120تلميذا، ولم يعد للمدرسة فناء مدرسى يمارس فيه التلاميذ انشطتهم أو يقفون فى طابور الصباح لتحية العلم ،وضعفت قداسة المسجد الجامع الذى يوحد الجماعة الإسلامية بعد ان أصبح هناك مساجد للسلفيين وأخرى للمتشددين انصارالقاعدة وداعش، ومساجد لمذاهب أخرى عديدة هى معظمها ينتمى إلى الخوارج هى فى جوهرها مساجد ضرار مزقت وحدة الاسلام والمسلمين!.
وفقد النظام القضائى قدرته على ردع المخالفين والخارجين على القانون، كما فقد قدرته على إقامة العدل بين الناس، لأن العدالة فى مصر بطيئة بل كسيحة بسبب تعقيدات الاجراءات القانونية وتباطؤ القائمين على وزارة العدل فى اصلاح قوانين اساسية شبعت تعديلا وترقيعا، ولم يعد هناك مفر من إنشاء قوانين بديلة..،وبسبب تباطؤ العدالة والتراخى فى تنفيذ أحكام القضاء بات فى وسع الاقوياء وحدهم ان يأخذوا سلطة القانون فى ايديهم ويغتصبوا دور الدولة ويتحولوا إلى سلطة عقاب تستعيد حقوقهم بقوة الذراع بحجة ان الدولة لم تعد تهتم كثيرا بتنفيذ أحكام القضاء!.
وبسبب هذا التراجع الملحوظ فى منظومة القيم والاخلاق بادر الازهر الشريف والكنيسة المصرية تحت مظلة بيت العائلة بالدعوة إلى عقد مؤتمر يبحث على نحو موضوعى أسباب تراجع أخلاق المصريين وسبل إصلاحها ومدى إمكانية تغيير هذا السلوك العشوائى وفرص إحياء بعض من هذه القيم الاصيلة..،حضر المؤتمر جمع من المثقفين والتربويين ورجال الدين المسيحيين والمسلمين والمعنيين بشئون الطفل والمرأة وبعض من رجال الإعلام والفن، وشارك فى افتتاحه فضيلة الامام الاكبر الشيخ احمد الطيب وقداسة البابا تواضروس بطريرك الكرازة المرقسية..،فى ضوء هذا القصد النبيل ثمة اسئلة مهمة يحسن استكشاف آفاقها،لعل إجاباتها الصحيحة تساعد على رسم خريطة طريق تحدد سبل وقف هذا التراجع فى القيم والأخلاق وتنجح فى إعادة هذه القيم المفتقدة:
اولها، هل نحن بالفعل إزاء قضية محض أخلاقية يمكن مواجهتها وعلاجها من خلال خطة عمل تربوى تنهض بها الاسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة واجهزة الاعلام؟ ام ان القضية أكثر تعقيدا ترتبط بعوامل اقتصادية واجتماعية لايستطيع المجتمع المدنى مواجهتها إلا من خلال خطة شاملة، تتوزع مسئولياتها بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني؟!.
وثانيهما،هل نحن إزاء قضية محض دينية يكفى لمواجهتها تجديد الخطاب الديني، أم ان تجديد الخطاب الدينى يشكل جزءا من رؤية متكاملة لمستقبل مجتمع يستهدف تحسين جودة حياته وإقامة حكم رشيد تتوازن فيه حقوق الدولة وحقوق الافراد من خلال نظام ديمقراطى يلتزم باحترام حقوق الانسان المصرى وتوسيع مشاركته السياسية بما يمكنه من تحصين حرياته الاساسية والفردية وفى مقدمتها حرية التعبير.
وثالث الاسئلة، ما هى الأولويات الصحيحة ان كانت عملية إصلاح الاخلاق واستعادة القيم على هذا القدر الكبير من الاتساع الذى يشمل محاربة الفقر وتقليل أخطاره وتحسين جودة حياة المصريين وترسيخ الحق الديمقراطى للافراد،وإصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية وتجديد الخطاب الديني؟!.
أغلب الظن ان قضية إصلاح الأخلاق واستعادة منظومة القيم الأصيلة هى فى جوهرها قضية مستقبل وطن يستهدف إسعاد المجتمع وإسعاد مواطنيه باعتبار ان ذلك غاية الحكم الرشيد وغاية المجتمع المدنى التى تتطلب تكاتف كل الجهود لتحقيق تنمية شاملة،لاتتوقف عند بناء الحجر بل تمتد إلى بناء البشر..، ومن ثم يصبح الجانب الاقتصادى حربا على الفقر والعوز والجوع ركنا اساسيا فى استعادة الاخلاق وتصحيح منظومة القيم، ولعلنا نتذكر هنا قول أبى ذر الغفاري(ما دخل الفقر بلدا إلا قال له الكفر خذنى معك!) وحمدالله ان مصر فى فقرها وغناها ظلت وطنا للايمان بفعل أزهرها الشريف وكنيستها الوطنية.
وأظن ايضا انه برغم الدور المهم للدين فى قضية الاخلاق والقيم باعتباره الوازع الرئيسى الذى يصون ضمير الإنسان ويحفظ نقاءه ويقظته، والوازع الإلهى الذى يحفظ للنفس الإنسانية جمالها ويكبح جموح شرورها، فإن قضية الاخلاق والقيم ليست محض دينية مع ان الدين فى جوهره عند المصريين يحرص على المحبة والإخاء ويوحد ولايفرق، وينبذ الشطط والغلو والتطرف، ويحض على تعارف الشعوب والامم، ويعترف بكل الرسل والانبياء لانفرق بينهم احدا، وينحاز إلى قيم السماحة واحترام عقائد الآخرين ،هدفه الأصيل إسعاد الإنسان فى الدنيا والآخرة، ولأن الأديان السماوية وفى مقدمتها الاسلام والمسيحية تحض على قيم الفضيلة والخير والحق والجمال، فربما يفيد اجيالنا الجديدة وهم فى سن التنشئة الاولى ان يدخل ضمن مناهج دراسة الدين دراسة القيم المشتركة التى تجمع بين اقباط مصر ومسلميها تعزيزا لعرى الوحدة الوطنية وأخذا بهذا الشعار المصرى القح الذى استحدثته ثورة 1919 (الدين لله والوطن للجميع)..،ولا اظن ان هناك ما يمنع من ان يركز الكتاب المدرسى الدينى سواء كان للمسلمين اوللأقباط على القيم الأخلاقية المشتركة التى تحض عليها كل الأديان السماوية تعزيزا لعرى المحبة والوحدة الوطنية.
وداخل جبهة الإصلاح الواسعة التى تبدأ من الحرب على الفقر إلى تحسين جودة حياة المواطنين استنقاذا لقيم الاخلاق الصحيحة، يحسن ان نركز فى برنامجنا الإصلاحى على اولويات اساسية كى لايتسع الخرق على الراتق،أولاها تنشئة الاجيال الجديدة على احترام قيم السماحة بما يمكنهم من نبذ التعصب والتطرف والعنف واحترام عقائد الآخرين ورموزهم الدينية والايمان بحقوق المواطنة المتساوية، وإعلاء قيم العمل والواجب، وتعزيز الانتماء الوطنى من خلال الاهتمام بمدارس الاطفال وحسن اختيار وتدريب معلميهم، لأن معلم الحضانة يفوق أستاذ الجامعة خطورة، خاصة انه فى هذا السن المبكرة يتم غرس معظم القيم الاساسية فى نفوس النشء الجديد بما يتطلب الفحص الدقيق واعادة النظر فى جميع برامجهم التربوية والمدرسية، ابتداء من كتاب الدين الى كتاب المطالعة،لانه عندما نبدأ من التنشئة الصحيحة لهذه الأجيال الصغيرة نكون قد خطونا اولى الخطوات الصحيحة لبناء مجتمع جديد..،ومن المؤكد ان الاولوية الثانية ينبغى ان تكون للمرأة التى يسبق دورها فى تربية النشء دور الجميع بما فى ذلك المدرسة والجامع والكنيسة، لأنها أم المستقبل التى إن حسن إعدادها أعددت شعبا طيب الأعراق، بحيث يبدأ هذا الاعداد والمرأة لاتزال فتاة صغيرة تهتم مناهج الدراسة بتعليمها وتعريفها بكل واجبات الأمومة وأعبائها، ومن المؤكد ان المدخل الصحيح لإعداد هذه الام التى تحسن تربية أبنائها هو احترام حقوق المرأة وإلغاء كل صور التمييز السلبى التى تقلل من شأنها وتصحيح البنية القانونية للعلاقات الأسرية بما يضمن حقوقها وحقوق أبنائها فى حالات التطليق والاهتمام بتثقيفها بما يمكنها من حسن تربية اولادها، والحفاظ على صحة أسرتها وحسن تدبير أمور بيتها.
ولايبقى سوى ان نقول اخيرا إنه مهما يكن ما نراه على سطح المجتمع المصرى من ظاهرات مقلقة نتيجة انحسار الاخلاق وضعف القيم صادما فاننا افضل كثيرا من غيرنا، لان معدن هذا الشعب الطيب الأعراق لا يزال اصيلا، كل ما يحتاجه بعض العدل والكرامة والاهتمام كى يبرق معدنه ذهبا بما يمكنه من صنع المعجزات ومواجهة أخطر التحديات.
المصدر: الأهرام