بقلم - مكرم محمد أحمد
فى ترحيبه بمشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية، أكد رئيس المؤتمر ولفجانج إيشنجر أن مشاركة الرئيس السيسى فى المؤتمر تُمثل حدثا تاريخياً مهما لإعادة صياغة الشراكة بين أوروبا وإفريقيا لأن العلاقات القائمة الآن بين الطرفين تحتاج إلى تغيير شامل ينقلها إلى نطاق شراكة إستراتيجية لمواجهة مخاطر الإرهاب وتحقيق النمو الاقتصادى، وهذا ما أكده الرئيس السيسى فى بداية كلمته أمام المؤتمر، ليس فقط بصفته رئيساً لدولة مصر التى تتفاعل مع محيطها الإقليمى الإفريقى والعربى وتضطلع بدور رئيسى فى تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية لمنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، ولكن لأن مصر التى تسلمت قبل أيام قليلة الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقى لعام 2019 تتطلع للتعبير عن شواغل الشعوب الإفريقية التى تنشد الأمن والاستقرار والتقدم .
وحدد الرئيس السيسى فى خطابه أمام المؤتمر، طبيعة المخاطر والتحديات الأمنية التى تواجه عالمنا المعاصر وبينها استمرار بؤر التوتر والصراع على الصعيد الدولى وتفشى مخاطر الإرهاب والتطرف، وتصاعد معدلات الجريمة المنظمة، وما يشكله ذلك من ضغوط على مفهوم الدولة الوطنية التى يتهددها خطر انهيار مؤسساتها وضياع مقدرات الشعوب وأمنها واستقرارها، خاصة مع تصاعد ما يشهده النظام الدولى الآن من مظاهر الاستقطاب وزيادة حدة المواجهات السياسية التى تضاعف حجم المخاطر إلى جانب تحديات الطبيعة فى تغيرات المناخ والتصحر ونقص المياة وهى تحديات جسيمة تفوق قدرة أى دولة على مواجهتها، إنها تحديات عابرة للقارات لا تعترف بالحدود الجغرافية ويمتد تأثيرها إلى الجميع، وأوضح الرئيس السيسى للمؤتمر أن موقع مصر إفريقياً وعربياً وأوروبياً يجعلها تتأثر وتؤثر فى حالة عدم الاستقرار فى بعض دول الجوار، وعندما سقطت بعض دول الجوار بفعل فاعل هو الإرهاب الذى لا تزال تدعمه بعض الدول المعروفة واشتعلت فيها الحرب الأهلية، تعرضت مصر لحالة من النزوح والهجرة من عدد من الدول الإفريقية والعربية، ألزمت مصر استضافة أكثر من خمسة ملايين لاجئ لا يقيمون فى مراكز أو معسكرات للإيواء، ولكن يعيشون وسط المصريين مثلهم مثل كل المواطنين، وقد دفع سقوط عدد من دول الجوار مصر للقيام بإجراءات أمنية مكلفة حماية لأمنها فى منطقة الصحراء الممتدة من ليبيا إلى حدود مصر والسودان، شملت تدمير عشرات القوافل من سيارات الدفع الرباعى، تحمل أسلحة وذخائر ومقاتلين أجانب تستهدف نشر التخريب والدمار، وأكد الرئيس السيسى للمؤتمر أن المصريين جميعاً يرفضون التطرف والإرهاب وأن 30 مليون مصرى خرجوا فى تظاهرات عارمة شملت كل المدن المصرية يرفضون الحكم الدينى القائم على التطرف الذى يهدف إلى تقويض مؤسسات الدولة الوطنية، وفى مقدمتها القوات المسلحة كى يتمكن من القفز على السلطة والسيطرة على الحكم، وخلص الرئيس السيسى من كل ذلك إلى أن الاستقرار والأمن فى الشرق الأوسط والعالم العربى يتأثران بأمن البحر الأبيض المتوسط والأمن الأوروبى، كما أن الاستقرار والأمن الأوروبى يتأثران بما يجرى فى منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ولهذه الأسباب يتحتم حوار الطرفين وتواصلهما بحثا عن أرضية مشتركة لمعالجة قضايا الأمن وسائر الموضوعات التى تمثل مصلحة مشتركة للجانبين، وما يميز خطاب الرئيس السيسى فى مؤتمر ميونيخ أنه خطاب عقلانى يقوم على حقائق مؤكدة، يخاطب العقل وليس العاطفة، صادق فى توجهاته ووقائعه، ولهذا كان تأثيره البالغ على حضور المؤتمر.
شمل خطاب الرئيس السيسى أمام مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية ضرورة العمل مع مفوضية الاتحاد الإفريقى على إنشاء مركز إعمار لإعادة بناء ما خربته النزاعات والحروب الأهلية ومواصلة خطط التنمية المستدامة، مؤكدا أن الشراكة الإستراتيجية بين أوروبا وإفريقيا تفرض تعاون الطرفين فى هذه المهمة التى تمثل بالنسبة للأفارقة أولوية قصوى، لكن مؤتمر ميونيخ أتاح فرصة مهمة مكنت الرئيس السيسى من الالتقاء بعدد من الشركات الأوروبية والألمانية الكبرى المعنية بقضايا الأمن والتنمية، وخلال اللقاء أعرب الرئيس عن حرص مصر البالغ على تعزيز تعاونها مع مختلف الشركات الدولية وزيادة حجم إستثماراتها فى مصر، مشيراً إلى التطورات الإيجابية التى يشهدها الاقتصاد المصرى فى ضوء برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى تؤكد جميع مؤشراته الأخيرة حجم التقدم الهائل الذى يحفز الاقتصاد المصرى على تحقيق نقلة نوعية فى جودة الحياة المصرية مع ارتفاع معدلات النمو إلى حدود 8ر5 فى المائة وهبوط معدلات التضخم والبطالة لأول مرة إلى حدود 5ر8 فى المائة وزيادة حجم الإستثمارات بمعدلات تفوق أى توقع، وتوفير المزيد من فرص العمل فى مشروعات قومية جديدة، أبرزها مشروع تنمية محور قناة السويس الذى يعمل على الاستفادة من الإمكانات الهائلة لتلك المنطقة وما تمثله من شريان رئيسى لحركة التجارة الدولية، عبر إقامة مركز صناعى وتجارى ولوجستى دولى يعزز من وضع مصر الصناعى وأهميتها الإستراتيجية والجغرافية على أهم طرق التجارة العالمية، ويجعلها قاعدة إنطلاق للتصدير إلى إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، ومركزاً لوجستياً مهماً للطاقة فى منطقة البحر الأبيض يوفر فرصاً استثمارية واعدة وضخمة للشركات العالمية، وباختصار مثل خطاب السيسى ولقاءاته فى مؤتمر ميونيخ أقصر الطرق عقلانية إلى عقل أوروبا، بتركيزه على المصالح المشتركة التى تربط أمن أوروبا ومصالحها بأمن مصر والشرق الأوسط والأمن الإفريقى، ولهذه الأسباب اعتبر رئيس المؤتمر حضور السيسى مؤتمر ميونيخ حدثا تاريخيا مهما.
وربما كان أهم ما ميز خطاب السيسى أمام مؤتمر ميونيخ أنه مزج بصورة طبيعية بين مصالح مصر ومصالح إفريقيا ووحدهما فى بوتقة واحدة تقوم على تكامل المصالح والمنفعة المتكافئة المشتركة، وربط بين الأخوة الإفريقية والأخوة العربية، مؤكداً انتماء مصر الإفريقى والهوية العربية وأنهما جناحان متكاملان للشخصية المصرية، ولأن العالم لا يعرف سوى لغة المصالح المشتركة كان تركيزه الواضح على ارتباط أمن الشرق الأوسط والأمن الأوروبى، ليس فقط بدواعى المصالح المشتركة والعلاقات التجارية والثقافية التى تربط بين الجانبين عبر عصور قديمة تمتد إلى مصر الفرعونية والقبطية، ولكن لأن أوروبا والشرق الأوسط يرتبطان منذ قديم الأزل بالبحر الأبيض الذى لا يعدو أن يكون بحيرة مغلقة ،شاطئها الشمالى فى أوروبا وشاطئها الجنوبى فى الشرق الأوسط وعلى الشاطئين تتعايش منذ فجر التاريخ مصالح شعوب عربية وأوروبية.