كان العقيد القذافى يعتقد فى قرارة نفسه انه يحب مصر أكبر كثيرا من المصريين بمن فى ذلك الرئيسان السادات ومبارك،لكن حب القذافى كان من هذا النوع القاتل الذى يغدر ويخون، خاصة بعد ان سيطرت على أفكاره أوهامه بأنه وحده القادر على وضع مصر فى مكانها اللائق لانه وحده الذى يعرف ميزاتها وعبقرية تفردها، ويستطيع استثمار كل ذلك بأكثر من قدرة الرئيسين السادات ومبارك!..، وصك له اذنابه من المثقفين الماجورين شعارا يرضى غروره، مفاده ان مصر شعب بلا قائد على حين تحظى ليبيا بقائد ينقصه حماس الشعب المصرى ووطنيته!!.
لكن المصريين فى الاغلب لم يكونوا يطمئنون كثيرا إلى سياسات القذافى ويخشون دائما من عواقب مقامراته، ولايستريحون لطريقة إدارته للحكم فى ليبيا، ولايصدقون وعوده، ولايريدون منه أكثر من الامن والسلامة وحسن الجوار، وربما كان الشىء الوحيد الذى يجمع بين سياسات مصر وسياسات القذافى كراهيته الشديدة للجماعات المتطرفة المسلحة وحرصه الدائم على محاربتها،لكن كلفة قرارات القذافى كانت جد باهظة.
وبالطبع كان جزءا من مسئولية الحكم فى مصر سواء فى عهد الرئيس السادات او فى عهد مبارك هو محاولة استيعاب جنوح القذافى وتفكيك طموحاته ونزعاته الفردية،وتقليل قدرته على ان يفاجئ مصر بخطوة لم تكن تدخل فى حساباتها، وإقناعه بضرورة القبول بالواقع العربى لانك لاتسطيع ان تغير كل شئ فى لمحة زمان!.
وكما استنزف الرئيس السادات جزءا كبيرا من وقته وحكمه فى محاولة ترويض القذافى إلى ان ضاق ذرعا بتصرفاته ولم يعد يستطيع احتماله فحاربه وأدبه كى يلزمه حجمه الحقيقي!، استنزف مبارك الكثير من وقته، لكن مبارك كان أقل اجتراءا على التعامل مع متغيرات الواقع العالمى كان أكثر صبرا وطول بال مع القذافي،يراقبه ويحاول احتواءه ويمنعه عن مبادرات كان يمكن ان تأخذ الشرق الاوسط إلى مجاهيل عديدة..،وأكاد اقطع بأن مبارك امضى نصف حياته السياسية يراقب ويتابع العقيد القذافى خوفا من شروره وأخطاره، وكان اهم اداوته فى هذه اللعبة الشاقة وزير إعلامه صفوت الشريف الذى كان يحسن فهم عقلية العقيد القذافى كما يحسن فهم عقلية الرئيس مبارك!.
ولم يكن القذافى بالشخصية السهلة التى يمكن ترويضها بسهولة، كان لديه استكبار وعناد وعجرفة كاذبة وعنطزة ومصطنعة، لا يرى سوى نفسه. واظن ان القذافى لم يكن فى قرارة نفسه يحب ان يكون له جيش قوى لايستطيع السيطرة عليه، ولعله الوحيد بين قادة العرب الذى قلل من اعتماده فى تحقيق امنه وامن نظامه والبلاد على الجيش!، وبسبب مخاوفه المرضية فكك القذافى قواته المسلحة إلى كتائب او دروع عهد بقيادة كل منها إلى واحد من ابنائه او اشقائه، لكن حلف الناتو الذى كان يعتزم اسقاطه وسع نطاق مهمته لتشمل تدمير الدولة الليبية وتدمير ما تبقى من قواتها المسلحة وتدمير أجهزة الامن والشرطة ليترك البلاد خرابا يبابا تعيث فيها فسادا جماعات المعارضة المسلحة،سواء كانت جماعات جهوية تتبع المكان مثل جماعات مصراتة والزينتان،اوجماعات عقائدية تجنح إلى الفكر التكفيرى أو كانت من الجماعات المشايعة لجماعة الاخوان المسلمين التى كانت رغم تنظيمها القوى تعيش على هامش الحياة السياسية فى ليبيا!، وفى آخر انتخابات برلمانية جرت عام 2014 فازت جماعة الاخوان المسلمين فقط بـ 16 مقعدا من 250مقعدا هم اعضاء البرلمان،اما الجماعات التكفيرية فقد كان الشعب الليبى بطبيتعه وفطرته يرفض هذه الجماعات،ويرفض محاولاتها تمييزنفسها بانها جماعات مسلمة ويتشكك فى دوافعها، وفى الاغلب فإ ن هذه الجماعات لم تحصد اية شعبية ذات بال وان كانت قد تمكنت من ان تشكل عصابات مسلحة، بنيتها الاساسية المهاجرون التونسيون الذين حاربوا فى سوريا والعراق إلى جوار داعش وعاد بعضهم إلى ليبيا بعد ان تم طرد داعش من نسبة كبيرة من الاراضى السورية والعراقية، كى يجعلوا من ليبيا قاعدة لضرب تونس والجزائر ومصر!.
انفق العقيد القذافى اموال الليبيين على مشروعات فاشلة، ابرزها مشروع النهر العظيم الذى لم يحقق اية فوائد حقيقية للشعب الليبى واستنزف الملايين من الدولارات على انشاء جماعات موالية له، عربية وافريقية ومن كل جنس وملة مادامت تحمل شعارات الكتاب الاخضر!، وعندما تكاتف الجميع على انهاء حكم العقيد القذافي، وتدخل حلف الناتو ليدمر البلاد طولا وعرضا ساعد على ذلك شخصيات عربية مهمة أملت على الجامعة العربية اصدار قرارات خاطئة اعطت شرعية لتدخل حلف الناتو تحت ضغوط رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم الذى نجح فى فتح هذه الثغرة فى جدار السياسة العربية!.
وليس هكذا اللواء خليفة حفتر الذى يمثل شاغل مصر الأول فى ليبيا ويحرص دائما على ان يكون عسكريا منضبطا بعد ان نجح فى لملمة ما تبقى من قوات الجيش الليبي، واعاد تنظيمها فى وحدات عسكرية تحارب جماعات الارهاب شرق البلاد، هدفه الاول والاخيرتخليص شرق ليبيا من هذه الجماعات.
ومع الاسف ادى شيوع الاسلحة وانتشارها وتعدد الجماعات المسلحة الجهوية والعقائدية إلى المزيد من القتل والتدمير إلى ان وقع الحادث المريع الذى ادى الى مقتل 65ضابطا من القوات المسلحة جعلت الجيش الليبى يحس بالامتهان وأفتقاد الكرامة، وزادت من غضب الضباط والجنود فى ثكناتهم داخل القوات المسلحة،وعلت تهديداتهم بالانضمام إلى الثورة، إلى ان قررت قيادات هذه القوات الدعوة إلى مؤتمر يحضره اللواء حفتر بحثا عن طريق لخلاص ليبيا من هذه الازمة المغلقة.
وبالفعل عقد المؤتمر الذى حضره حفتر وتوافق الجميع فيه على ضرورة استعادة كرامة القوت المسلحة وإعادة لملمة صفوفها والزامها الانضباط والانتظام وحسن الاداء والمسلك تحت قيادة حفتر،الامر الذى اعاد للبلاد قدرا من السكينة والصبر انتظارا لما يمكن ان تسفر عنه جهود حفتر الذى حارب الارهاب بضراوة فى كل مناطق شرق ليبيا، وأدى ذلك بالفعل إلى ان أصبح حفتر جزءا من الواقع الليبى يصعب تجاهله، يعترف الجميع بدوره ونجاحه، وكما زادت شعبية حفتر فى المنطقة الشرقية ازدات شعبيته فى معظم ارجاء ليبيا وعبرت إلى المنطقة الجنوبية فى سرت كما اصبحت لحفتر جماعات قوية تناصره فى غرب ليبيا، تضم رؤساء قبائل وأعضاء بارزين فى المجتمع المدنى وسياسيين وصحفيين ينتصرون لمهمة حفتر، كما زادت قوته ومكانته داخل القوات المسلحة، والاكثر مدعاة للدهشة أن بعضا من قبائل الغرب والشرق استجاب لطلب حفتر ورفع الغطاء الاجتماعى عن شباب من قبائله تورطوا فى أعمال العنف والارهاب كى يتركوا للجيش فرصة القصاص من هؤلاء، بما يعكس قوة نسيج المجتمع الليبى ووحدته وخلوه من مشاكل الطائفية وحرصه على الابقاء على الينابيع الاولى لصحيح الدين سليمة نظيفة لا يداخلها اى من تخرصات وضلالات جماعات الارهاب وبفضل هذه العوامل المهمة نجح حفتر فى تخليص شرق البلاد من جماعات الارهاب بحيث يمكن ان نقول الان،ان المنطقة الشرقية من ليبيا قد اصبحت خالية من جماعات التطرف بإستثناء جيوب قليلة تظهر لماما ويتم معالجتها على الفور لكن شرق ليبيا الان يكاد يكون منطقة نظيفة بالكامل نتنظر أعلان هذا الحدث فى مناسبة قومية كبيرة، وهو أمر يعترف به كل الليبيين.
وتبقى بعض الحقائق الاساسية التى لا يمكن اغفالها، اولها ان القوى المؤثرة فى الواقع الليبى تضم مكونات اساسية يبرز من بينها قيادة حفتر ومعاونيه التى تشكل صمام الامان فى المنطقة الشرقية، بعد أن نجحوا بالفعل فى تحرير شرق ليبيا من كافة جماعات الارهاب، وثانيهما حرس المؤسسات النفطية الذى يتولى مهمة حراسة مؤسسات النفط وابياره وحقوله وخطوط أنابيبه على نحو مقبول استطاع مواجهة هجمات جماعات الارهاب المتقطعة التى استهدفت مدينة أجدافيا على وجه الخصوص، وثالث هذه القوى المجلسان العسكريان لمدينتى مصراتة والزينتان وكلاهما تشكيل أهلى لميليشيات جهوية، الاولى تحمل أسم مصراتة لعلها أقوى المليشيات غرب ليبيا خاصة ان نفوذ أهل مصراته يمتد إلى داخل مدينة بنغازى حيث تعيش جالية قديمة من أهل مصراتة شرق ليبيا تشكل جزءا اساسيا من محور الحياة فى المدينة،ويقابل تشكيل مصراتة تشكيل الزينتان الموالى للثورة ويعارض توجهات تشكيل المجلس العسكرى الاعلى لمصراتة، وخارج هذين التشكيلين الجهويين(مصراتة والزينتان) بنفوذهما الجهوى الضخم، يصعب تجاهل الاثر المهم لقبائل الجنوب فى سرت خاصة قبيلتى التبو والطوارق اللتين تحاربان الان إلى جوار حكومة الوحدة الوطنية بقايا تنظيمات داعش فى الجنوب.
وبرغم عدم وجود تناقضات ضخمة تهدد امن واستقرار ليبيا فى المنطقة الشرقية، إلا ان الحساسية المفرطة الموجودة الان بين اللواء حفتر والمجلس العسكرى الاعلى لمصراتة تشكل عائقا امام امكانية تواصل الحوار وتعزيز الوحدة الوطنية بين شرق البلاد وغربها..، وقبل ثلاثة اشهر دعت مصر عددا من أعضاء المجلس العسكرى الاعلى لمصراتة لمفاوضات جادة هدفها تصحيح وتعزيز العلاقات بين اللواء حفتر وجماعات مصراتة المسلحة التى تضم بعضا من القوى الاسلامية..،وأظن ان المفاوضات حققت بعض التقدم لكن الامرلا يزال يحتاج إلى مزيد من الجهد، كما يحتاج إلى بذل جهود مقابلة من جانب اللواء حفتر لإزالة المخاوف التى جعلت الكثيرين فى ليبيا يفكرون على نحو خاطىء، ويتصورن ان حفتر هو الصورة المقابلة للعقيد القذافى وانه يمكن ان يكون ديكتاتورا عسكريا وان اختلفت بعض توجهاته السياسية،على حين يطالب المجتمع الليبى بدولة قانونية مدنية تخضع فيها القوات المسلحة لنظام سياسى وقانونى يحكمه دستور واضح، يقوم على دولة المؤسسات وضرورة استكمال مؤسسات الجيش والشرطة والامن والقضاء.
وكما أن هناك بعض الحساسية التى ينبغى رفعها بين حفتر والمجلس العسكرى الاعلى لقبائل مصراته، ثمة حساسية آخرى تعيق التواصل والتفهم المتبادل بين اللواء حفتر ورئيس حكومة الوحدة الوطنية فايز السراج، رغم الجهود التى بذلها رئيس الحكومة من أجل تأكيد حاجة البلاد لجهود اللواء حفتر وتقديرها للدور الذى قام به، لكن يبدو ان مبادرة رئيس الوزراء بالهجوم على داعش جنوب سرت دون انتظار عون من اللواء حفتر وانضمام عدد من مساعدى حفتر إلى الحكومة الشرعية زاد من تعقيد المشكلة، الامر الذى بات من الضرورى البحث عن علاج واضح ومباشر يتوجه اصلا إلى رأس المشكلة وموضوعها الكبير، هل يمكن لحفتر ان يبدد مخاوف كثير من الليبيين بانه لا يريد السيطرة العسكرية المنفردة على حكم ليبيا لانه من مصلحة ليبيا ان تكون دولة قانونية مدنية يحكمها القانون، وتخضع فيها القوات المسلحة للقيادة السياسية فى اطار دستور واضح يحدد السلطات.
باختصار شديد هذا هو جوهر المشكلة ولبها، بعد أن اصطدمت جهود المبعوث الأممى بحائط مسدود ووضح استحالة تطبيق عدد من بنود الحل الأممى، الذى يعد استخدام الجماعات المسلحة ويحاول إكسابها شرعية غير صحيحة بدلا من إدانتها ورفضها،، ويوطن المشكلات بدلا من حلها، وباختصار اشد فإنه ما من دولة تقدر على معالجة هذه المشكلة على حيويتها وخطورتها سوى مصر، لان مصر ساعدت حفتر بكل ما تستطيع من أجل دعم الامن والاستقرار فى ليبيا،ولان ليبيا تشكل بالنسبة لمصر حجر الزاوية فى امنها القومى والوطنى ولاتستطيع مصر الصبر كثيرا على وجود هذه الفوضى التى تضرب أطنابها فى ليبيا حرصا على امنها وعلى الامن الليبى وثالث الاسباب ان استقرار وامن ليبيا سوف يزيد من عوامل استقرار وامن مصر.
واعتقد ان المطلوب أخيرا جهد مصرى يمكن ان تشارك فيها الجزائر وتونس والمغرب، يستهدف تعزيز وحدة القوى الوطنية الليبية من خلال مؤتمر شامل يعقد فى القاهرة، تحضره جميع القوى الليبية فى اطار احجامها الحقيقية دون مبالغة، بما فى ذلك المجلسان العسكريان لمصراتة والزينتان،وممثلون عن قبائل الشرق والغرب والجنوب، المطلوب باختصار مؤتمر شامل يحضره كل من يستطيع ان يقدم خطوة بناءة فى تعزيز واستقرار ليبيا، هدفه الوحيد التوافق على ميثاق وطنى يشارك فى وضعه جميع هذه القوى بما يضمن للحكم الاستقرار ويضمن الأمن لليبيا التى تملك أطول شاطىء قبالة الجنوب الأوروبي، يمكن أن يكون مصدر إزعاج للأمن الأوربى، ليس فقط بسبب عصابات مهربى المهاجرين التى تنطلق من الساحل الليبى، ولكن بسبب إصرار داعش على أن يحيل ليبيا إلى قاعدة للإرهاب، والأمر المؤكد أن دول الجوار الجغرافى لليبيا سوف تكون اكثر امنا من أن تترك الامور على حالها الراهن، تتداعى وتنهار شيئا فشيئا انتظارا لتدخل اجنبي!، غالبا ما تغوص ايديه داخل عمق البلاد، تدمر وتقتل وتثير الفتن وتشعل الحرائق وتعزز روح الانقسام،تنفيذا لمخطط قديم يعرف كل الليبيين ان ابعاده تتمثل فى تقسيم ليبيا إلى دويلات ثلاثة