بقلم - مكرم محمد أحمد
رغم رغبة الإيرانيين المُعلنة خاصة التيار المحافظ فى البقاء فى سورية إلى الأبد، تواجه إيران ضغوطاً قوية من الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وغالبية الدول العربية على ضرورة خروج قواتها من جميع الأراضى السورية بأسرع وقت ممكن، وأن عواقب التأخير فى انسحاب هذه القوات سوف تكون شديدة الوطأة على إيران التى استباحت الأمن العربي، ومددت نفوذها داخل دول الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة لتشمل سوريا والعراق ولبنان واليمن وقطاع غزة، فى تحد سافر لإرادة العرب السياسية، حيث أصبحت إيران طرفاً أساسياً فى معظم صراعات المنطقة، تسلح الحوثيين فى اليمن وتحرضهم على إطلاق الصواريخ الإيرانية الصنع على الرياض وجدة، وتبيح لنفسها السيطرة الكاملة على طريق محورى يصل إيران بالعراق وسوريا وصولاً إلى شرق المتوسط، تستخدم فى ذلك قوات حزب الله اللبنانى وميليشيات الحشد العراقى ووحدات الحرس الثورى الإيراني، وقد تضخم بعضها بفضل المساعدات الإيرانية المهولة إلى حد أن أصبح طرفاً فى تقدير الحرب والسلام فى الشرق الأوسط بكامله دون اعتبار لقواه الأساسية!، وتكاد تجعل من سوريا رهينة لنفوذها، تعطل إنهاء الحرب الأهلية السورية، وتنشر قواعدها الجوية فى كل مكان، وتسيطر على سلطة القرار السياسى فى العاصمة دمشق، وتعزز قسمة البلاد الطائفية، تذكى مشاعر الكراهية بين السنة والشيعة كى تكون فتنة دائمة حلها الوحيد قسمة البلاد إلى ولايات وكانتونات طائفية! والأخطر من جميع ذلك كله أنها تعطى لإسرائيل كل المسوغات التى تمكنها من البقاء فى هضبة الجولان بدعوى أن إيران تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل، ومن المؤكد أنها تشكل الذريعة الأساسية لحركة قوية داخل الكونجرس الأمريكي، تُطالب بضم الجولان إلى إسرائيل وعدم عودتها إلى سوريا من خلال مخطط واضح تستهدف خطوطه الأساسية، ضخ ميزانيات ضخمة لمشروعات إسرائيلية أمريكية مشتركة تُقام فى الجولان، وتوسيع اتفاقات التجارة الحرة بين إسرائيل والولايات المتحدة لتشمل هضبة الجولان، ووسم منتجات الهضبة بأنها صنعت فى إسرائيل لتصديرها إلى الولايات المتحدة، وأخيراً صياغة وثائق سياسية من قبل الكونجرس تعترف بسيادة إسرائيل على الهضبة وعدم عودة القوات السورية إلى المكان، إننى لا أتكلم عن أحلام تنسجها إسرائيل ولكننى أتكلم عن خطط مشتركة أمريكية إسرائيلية تناقشها الآن إدارة الرئيس الأمريكى ترامب على أمل إعلانها وتنفيذها فى غضون شهور إن لم يكن مجرد أسابيع مقبلة!.
ورغم ما أعلنته إسرائيل فى مايو الماضى بأنها قصفت البنية الأساسية التى تستخدمها القوات الإيرانية فى سوريا، والتى تشمل العديد من القواعد الجوية ومعسكرات الحرس الثورى الإيراني، يُصر الرئيس بشار الأسد على أن الوجود العسكرى فى سوريا يقتصر على ضباط يساعدون الجيش السوري، وأن القصف الجوى الإسرائيلى الذى قالت إسرائيل إنه استهدف العديد من المواقع الإيرانية فى سوريا أدى إلى استشهاد وجرح عشرات الشهداء والجرحى السوريين، ولم يكن بينهم إيرانى واحد! كذلك نفى وزير خارجية سوريا وليد المعلم أى وجود عسكرى إيرانى فى بلاده يتعدى الدور الاستشاري، مؤكداً أن المستشارين العسكريين الإيرانيين موجودون فى سوريا بدعوة من النظام السوري، عكس الوجود التركى والأمريكى والفرنسى الذى يمثل عدواناً على سوريا! . وإذا كان الوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا يقتصر على مجرد مستشارين ضباط كما يقول الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم فالأمر المؤكد أن هؤلاء المستشارين يتجاوزون كثيراً أن يكونوا بضع مئات من الضباط، لأن هناك ثمة تقارير أخرى تؤكد مقتل ألفى عسكرى إيرانى على الأرض السورية منذ بدأت إيران دعم نظام الأسد عقب ما يسمونه ثورة الربيع العربي، لكن المؤكد أن إيران كانت حريصة دائماً على وجود عسكرى مهم ومشهود فى سوريا، يحمى استثماراتها الضخمة فى سوريا التى تتجاوز 30 مليار دولار والتى يبدو أن الإيرانيين مُصممون حتى الآن على البقاء فى سوريا لجنى المكاسب الاستراتيجية التى يمكن أن تحصل عليها على المدى الطويل، ووفقاً للحسابات التى أجراها الدبلوماسى الإيرانى السابق مقصور فارهنح فإن إيران أنفقت ما لا يقل عن 30 مليار دولار على شكل مساعدات عسكرية واقتصادية، بينما يرى د. نديم شحاته فى جامعة تافس أن حجم ما أنفقته إيران فى سوريا يتجاوز الآن 105 مليارات دولار بمعدل 15 مليار دولار سنوياً فى المجالات العسكرية والاقتصادية، لذا ربما يكون صعباً على الإيرانيين فى هذه الظروف الجديدة أن يحزموا حقائبهم ويعودوا إلى بلادهم بخفى حنين خاصة إذا كان القرار النهائى فى هذه القضية يعود إلى المرشد الأعلى خامنئى والمؤسسات السيادية التابعة له وبينها أجهزة الأمن والمخابرات والحرس الثوري.. وفى تقدير نوار أوليفار الباحث العسكرى فى مركز عمران للدراسات الاستراتيجية المقيم فى إسطنبول، أن القوات العسكرية الإيرانية تعمل حالياً فى 11 قاعدة عسكرية منتشرة فى جميع أنحاء البلاد، بالإضافة إلى تسع قواعد تابعة للميليشيات العسكرية الشيعية الموجودة فى جنوب حلب وحمص ودير الزور، فضلاً عن مراكز سيطرة حزب الله التى تتمثل فى 15 قاعدة عسكرية ونقطة مراقبة فى حلب وعلى طول الحدود اللبنانية، والواضح بالفعل أن الوجود الإيرانى فى سوريا تتشعب عميق الجذور يستند إلى قوات ومليشيات عسكرية متعددة وإلى مصالح اقتصادية واسعة تقوم عليها شركات كبيرة تعمل فى مجالات الزراعة والصناعة وإقامة الشبكات الكهربائية تصدر ما لا يقل عن 105 ملايين دولار من البضائع، كما أقرضت إيران نظام بشار الأسد أكثر من 4.5 مليار دولار، ومن الصعب فى ظل هذه المصالح الضخمة أن ينسحب الإيرانيون من سوريا نهائياً، وإن كان من المرجح أن ينسحبوا تحت ضغوط الروس تكتيكياً من بعض المواقع خاصة فى الجولان، وثمة ما يؤكد أن التحالف الذى كان وثيقاً بين سوريا وإيران على الأرض السورية فى صيف عام 2015، ينسقان معاً حملة مشتركة لإنقاذ حكومة بشار الأسد يضعف ويفكك بعد أن اختلفت المصالح، وتصاعدت مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية، وفى الشهر الماضى كان الرئيس الروسى بوتين واضحاً عندما أكد للرئيس بشار الأسد بأن القوات العسكرية الأجنبية سوف تغادر سوريا ما إن تبدأ العملية السياسية وتنحسر الحرب التى كبدت سوريا ما يزيد على نصف مليون شهيد، ودمرت معظم مدنها وأسواقها القديمة الجميلة خاصة فى حلب وأدت إلى خروج أكثر من 7 ملايين سورى من ديارهم الأصلية بينهم ثلاثة ملايين هاجروا إلى أوروبا عبر البلقان وبحر إيجة أو عبر المتوسط من خلال ليبيا، فضلاً عن الأعداد الضخمة التى هاجرت إلى الأردن ولبنان والعراق ومصر.
بل ثمة أنباء شبه مؤكدة صدرت عن القاعدة الروسية حميميم على صفحتها فى الفيسبوك تقول إن الروس والإيرانيين توصلوا بالفعل إلى اتفاق واضح على انسحاب القوات الإيرانية عن الحدود الجنوبية للبلاد إلى العمق السوري، لتفادى أى اشتباكات أخرى مع القوات الإسرائيلية، بينما أكد المرصد السورى لحقوق الإنسان انسحاب مستشارين إيرانيين من منطقة تل رفعت فى ريف حلب الشمالى إلى بلدتى نبل والزهراء.
ويبدو أن هذا الانسحاب الإيرانى التكتيكى من حدود مناطق جنوبى غرب سوريا الملاصقة لقوات إسرائيل فى هضبة الجولان لم يرض رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو الذى أكد فى مكالمة هاتفية أجراها الأسبوع الماضى مع كل من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو حتمية أن تنسحب إيران من كل الأراضى السورية وليس فقط من منطقة جنوب غربى سوريا، وتواصل إسرائيل بالفعل ضغوطها على روسيا باعتبارها صاحبة النفوذ الأوسع والأعظم فى سوريا لإجبار إيران على الانسحاب من كل سوريا مهددة بضرب المزيد من المواقع الإيرانية بالقرب من مرتفعات الجولان، أو فى أى مكان داخل سوريا، فضلاً عن ضغوط الولايات المتحدة التى وضعت ضرورة انسحاب إيران من كل سوريا على رأس 12 شرطاً أمريكياً لإلغاء العقوبات الأمريكية التى أعادت الولايات المتحدة فرضها على إيران بعد إعلان الرئيس الأمريكى ترامب خروجه من الاتفاق النووى الإيراني.
ولأن منع الوجود الإيرانى فى سوريا كان يُمثل أولوية قصوى لبنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى على امتداد العامين الماضيين، حصد نيتانياهو جهوده الدبلوماسية مع موسكو لإقناعها بأنه ليس من مصلحة روسيا الآن السماح لإيران بتحويل سوريا إلى دولة عميلة لإيران تأتمر بأوامر طهران وقد أدى هذا الفهم الجديد إلى سياسة جديدة، تتبعها روسيا تغمض عينيها تجاه الضربات الجوية الإسرائيلية فى سوريا التى تكاد تكون أهدافاً إيرانية، رغم أن روسيا تملك بالفعل القدرة العسكرية والجوية وشبكات الدفاع الجوى التى تلزم إسرائيل عدم التعرض للقوات الإسرائيلية على الأرض السورية، لكن الروس يرون الآن ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية بما فى ذلك القوات الإيرانية، خاصة أن كثرة اللاعبين الإقليميين على الساحة السورية يزيد القضية تعقيداً، فضلاً عن أن الحلف الروسى الإيرانى القديم يتفكك الآن بصورة واضحة نتيجة الفجوة الواسعة بين مصالح الروس والإيرانيين، وبرغم أن الروس يحاولون إقناع بشار الأسد الآن بالتخفف من عبء الوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا ورفع الشرعية عن وجود الميليشيات الإيرانية على الأرض السورية مقابل بقائه فى السلطة، لا يزال الموقف الرسمى السورى يؤكد أن الإيرانيين موجودون فى سوريا بطلب رسمى من العاصمة دمشق عكس وجود قوات فرنسية وتركية وأمريكية يشكل وجودها على الأرض السورية عدواناً سافراً .
ومن ثم فإن السؤال المهم والأخير هنا، ليس هل تخرج إيران من سوريا ولكن متى تخرج وكيف تخرج، لأن تشبث إيران بالبقاء فى سوريا سوف يؤدى إلى صدام جديد مع إسرائيل تساندها الولايات المتحدة، فى الوقت الذى يستعد فيه اقتصاد إيران لعقوبات أمريكية صارمة وخانقة، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الإيراني، فضلاً عن أن إجبار إيران على الانسحاب وضغوط إسرائيل العسكرية وشروط أمريكا القاسية سوف يكون بمنزلة ضربة قوية لهيبتها ومصالحها، فى ظل ظروف داخلية صعبة يعانى فيها حكم آيات الله وقوى المحافظين مصاعب كبيرة بسبب تململ الشارع الإيراني، وغضبه المتزايد من التقليص المستمر للحريات العامة والخاصة وزيادة رغبة الداخل الإيرانى فى التغيير والنفوذ الإيرانى المتزايد من سياسات المحافظين وصعوبة الوضع الاقتصادى بعد تطبيق العقوبات الأمريكية الجديدة، لكن إيران تتحمل المسئولية الكاملة بما أحاق وسوف يحيق بها وهى التى جعلت نفسها مثل براقش، عندما اختارت العداء ضد جيرانها العرب، ومدت نفوذها فى الشرق الأوسط على حساب مصالح العرب وأمنهم، وسيطرت النزعة العنصرية الفارسية على مجمل سياساتها تجاه السُنة، وعادت دون أى مسوغات رشيدة تضر مصالح العرب وأمنهم .
وأظن أن الخطاب العربى الصحيح تجاه إيران وشعبها لابد أن يعلو على التشفي، لأن الجغرافيا والدين يلزمان العرب السعى الدائم إلى حسن الجوار مع الأخ المسلم إن عاد إلى طريق الصواب، فضلاً عن أن أى صدام إيرانى عربى أمر غير مطلوب ينبغى تجنبه، سوف تكون نتيجته الوحيدة إحياء مظلومية كاذبة لا تستند إلى أى أساس، وتعطيل تفاعل عملية تطور داخلى تجرى الآن داخل إيران تراكم كل يوم نتائج جديدة فى مصلحة الحرية والديمقراطية وضد جماعات العنف الراغبين فى تصاعد الثورة إلى الخارج وإن غداً لناظره قريب.
المصدر :جريدة الأهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع