بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
ما أجمل أن نجد من وقت إلى آخر، أضواء تحفظ الأمل فى تحديث المجتمع وسط عتمة التوجهات المحافظة الغالبة فيه، والمسيطرة على قطاعات واسعة منه. أخذت الحداثة التى عرف المصريون طريقاً إليها منذ منتصف القرن التاسع عشر فى التراجع منذ سبعينيات القرن الماضى عندما بدأ الإسلام السياسى رحلة صعوده، وانتشرت الجماعات السلفية كالنار فى الهشيم، وازدادت أعداد المصريين الذين تأثروا بالتوجهات المحافظة فى مجتمعات ذهبوا للعمل فيها. ومع ذلك، يزداد اهتمام الأجيال الأصغر من المصريين بالفن العالمي، ومتابعتهم له، وتفاعلهم معه، كما يحدث الآن بشأن الأغنية الراقصة التى صارت الأكثر انتشاراً فى العالم «ديسباسيتو». وقد يستغرب البعض من أن يكون حجم التفاعل مع أغنية ما دالاً على حالة الحداثة فى مجتمع، أو مؤشراً على أن شعلتها لم تنطفئ. غير أن لأغنية »ديسباسيتو« أهمية خاصة فى هذا المجال لسببين على الأقل أولهما الانتشار الهائل الذى حققته فى أنحاء العالم كافة، إذ يفيد آخر احصاء نشرته شركة «يونيفرسال ميوزيك» فى منتصف يوليو الحالى أن عدد مرات بثها عبر منصات بارزة فى شبكة «الانترنت» وصل إلى 4.6 مليار مرة، أى أن أكثر من نصف سكان العالم البالغ عددهم سبعة مليارات سمعوها وشاهدوها.
وعندما يتخطى أى عمل إنسانى الحدود على هذا النحو، ويُحقق رقماً قياسيا غير مسبوق فى أى من أمور الحياة، لابد أن يكتسب قيمة عالمية تؤهله لأن يكون مقياساً لعلاقة أى مجتمع بالعالم، ومؤشرا على وجود قابلية للحداثة من عدمه.
والعامل الثاني، أن لغة الأغنية «الاسبانية» ليست واسعة الانتشار، بل محصورة فى أمريكا اللاتينية إلى جانب اسبانيا بالطبع. ولذلك يؤكد انتشار الأغنية فى أرجاء العالم أن الموسيقى الحديثة صارت لغة عالمية تخلق موجة جديدة من الحداثة تتجاوز الفن إلى الحياة فى مجملها. والملاحظ أن الإيقاعات الراقصة لموسيقى البوب فى هذه الأغنية تحمل الكثير من البهجة، التى يزداد شوق الناس إليها كلما ازدادت صعوبات الحياة، والمرح الذى يبحثون عنه فى كل مكان. وإذا كانت الحداثة نمط حياة، مثلما هى طريقة فى التفكير، تصبح «ديسباسيتو» معبرة عنها بامتياز، وصالحة لقياس مستوى التقدم فى المجتمعات الحديثة، ومدى استعداد المجتمعات التى ضلت طريق الحداثة للعودة إليه.