بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
البشر نوعان فى علاقاتهم بأوطانهم. نوعُ أول غالب يعرف معنى الوطن وقيمته ويظل مرتبطًا به حتى إذا انتقل للعيش فى بلد آخر. ونوع ثانِ لا يعدو الوطن بالنسبة إليه أن يكون قطعة أرض لا تختلف عن غيرها فى أنحاء العالم، فإن لم يجد بها ما يريد غادرها غير آسف. وتدخل مطالبة الرئيس الأمريكى ترامب بتهجير سكان قطاع غزة ضمن هذا النوع الثانى، برغم أن حديثه المتكرر عن عظمة أمريكا يوحى بأنه قد يكون من النوع الأول. ولكن ما يثير التساؤل حقًا هو عدم إدراك الرئيس الأمريكى أن قيمة الوطن لدى أهل غزة هى التى مكنتهم من الصمود فى مواجهة حرب إبادة شاملة نحو 15 شهرًا. وحتى إذا لم يلفت هذا الصمود انتباهه، فغريبُ أنه لم يتابع لهفة سكان شمال القطاع للعودة إلى ديارهم التى أُرغموا على النزوح منها، برغم علم أكثرهم أن بيوتهم هُدمت.
إنها الوطنية التى لا يعرفها بعض البشر، ويقدم أهل غزة درسًا جديدًا فيها. نسوا، ولو للحظات، مآسيهم المُفجعة ليفرحوا بالعودة إلى بلداتهم أو مخيماتهم فى الشمال. وفى مقابل دموع الفرح التى ظهرت فى فيديوهات وهى تنساب على وجوه بعضهم، كانت دموع الحزن تملأ عيون جنود صهاينة أُمروا بالانسحاب من محور نتساريم الذى أقاموه لفصل محافظتى شمال القطاع عن وسطه وجنوبه. رصدت القناة الرابعة عشرة الإسرائيلية مشهد الجنود الذين ذرفوا الدموع، ونقلت عن بعضهم أن ما فعلوه لأكثر من عامٍ ذهب هباء. انسحبوا يجرون أذيال الخيبة، فى الوقت الذى كان شباب فلسطينيون ينشدون فى طريق عودتهم إلى الشمال أغانى وطنية من بينها أغنية مصرية جميلة ومُعبرة: «يا دنيا سمعانى .. أبويا وصانى/ما أخلي جنس دخيل يخش أوطانى/الأرض دى أرضى أحميها أنا وولدى/أفديها بالأرواح وتعيشى يابلدى/أحلف يمين بالله الظلم ما نرضاه/واللي يعادينا يكتب بإيديه شقاه). أغنيةُ شاعت عقب حرب 1967، وكان مؤلفها وملحنها مطرب السمسمية الراحل عبده العثمانى، يغنيها فى تجمعات النازحين من مدن منطقة القناة فى تلك الفترة. فكلُ مقاومةٍ تنهل من تجارب سابقاتها وتراثها الثقافى.