بقلم - مصطفى فحص
جنائياً هي عملية إرهابية موصوفة وفقاً للمعايير الدولية (بيان مجلس الأمن) ضد شخص رئيس الوزراء، لكن سياسياً، وفي الحالة العراقية، هي أخطر من ذلك بكثير؛ لأنها جاءت عن سابق إصرار وترصد، فمن خطط ونفذ أراد الانتهاء من ظاهرة عراقية قيد التشكيل، يمكن تسميتها «الكاظمية» باتت تشكل نقيضاً ناجحاً؛ ولو نسبياً، في الدولة لتجربة فاشلة كلياً في السلطة، واستمرارها بالكاظمي، أو بمن يخلفه وبحماية «تشرينية» وشعبية، سيكون رافعة لمشروع الدولة في مواجهة مشاريع اللادولة.
مصطفى الكاظمي ليس شخصاً استثنائياً، لكن ظروف العراق لحظة تكليفه مهمته التنفيذية كانت استثنائية، أتاحت أمام الرجل متعدد المهن فرصة حقيقية للقيام بأول خطوة للتغيير؛ خطوة لم تكن في حسابات أطراف ارتضت تكليفه، لكن حينها قبلت على مضض بعدما وصل «موس تشرين» إلى لحيتها، ففي تلك اللحظة، كان معظم الطبقة السياسية العراقية في ذروة إفلاسه، وكانت بيوتات الطوائف متصدعة بعدما أضاع بعض من قاطنيها 18 عاماً من عمر العراق والعراقيين حروباً وهدماً وفساداً وتبعية، فقد كان العراق أكبر من أن يفهموه وكانوا أصغر من أن يحكموه.
فجر 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي كان الخيار اغتيال الدولة من أجل الاحتفاظ بالسلطة، لذلك كان المطلوب الفعلي الانتهاء من رؤية الكاظمي أو إزاحة «الكاظمية» قبل أن تتحول إلى عقيدة وطنية تهدد امتيازات دعاة الهويات الفرعية والعصبيات العقائدية، الذين وقفوا ويقفون في وجه كل من أراد إعادة ترميم المؤسسات وحماية الثروات، وإعادة الثقة بالعراق وبموقعه وبدوره ومكانته. فالكاظمي؛ الذي جاء إلى السلطة وحيداً، تمكن، وفي وقت قصير، من إعادة ترميم بعض من ثقة العراقيين بدولتهم، وذهب بتحديه الهادئ إلى إعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية التي عادت لتشكل في الوعي الجماعي العراقي عصباً وطنياً جامعاً، رغم تعرضها لنكسة معنوية، وعملية تهميش ممنهجة من أجل إخضاعها، وذلك بهدف إضعاف سيادة الدولة لصالح قوى عقائدية مسلحة ترفض إمرة الدولة.
قبل محاولة اغتياله حاولوا اغتياله سياسياً؛ عملوا على ابتزازه وحصاره وعزله، لكنه استطاع بحكمته وصبره تفكيك جزء من الألغام التي زرعت في طريقه، وتجاوز بعض الكمائن التي نصبت له، ورغم أنه خسر جزءاً من غطائه الشعبي ولم يفِ بكثير من وعوده، فإنه نجح في بلورة رؤية سياسية تختلف عن السائد السياسي؛ مما أثار حفيظة خصومه وأعدائه، فأجمعوا على ضرورة الخلاص منه ومما يمكن أن يؤسس له. وعندما جاءت نتائج الانتخابات مخالفة لشهوة السلاح عادوا وصوبوا سلاحهم نحو رأسه، لكن هذه المرة أرادوا اغتيال الفكرة وليس فقط حاملها. فقد تحول الكاظمي إلى مرآة لفشلهم فأصيبوا بلعنة المرآة التي تريهم ملامح وجوههم الحقيقية.
فعلياً عجّلت نتائج الانتخابات بقرار الاغتيال، بعدما جردت نتائجها بعض الأطراف من الشرعية والمشروعية وأظهرت أحجامهم الشعبية وكشفت عن انسداد أفقهم السياسي داخلياً، وباتوا ثقلاً على راعيهم الخارجي الذي فرضهم على الدولة ومكنهم من مؤسساتها، لكنه الآن يحصد نتائج ما ارتكبه وارتكبوه، ولم يعد قادراً على إعادة تعويمهم، وتحولوا إلى عبء على مصالحه، فبعد استخدامهم في محاصرة التجربة العراقية وإخضاعها لشروط نفوذه، يحاول الآن التملص من أفعالهم، فالذي اعتاد التباهي بشطارته السياسية وحنكته ارتكب أفدح الأخطاء، ففشل محاولة إلغاء الكاظمي كرّسه سياسياً ومعنوياً، وفتح أنظار العراقيين على أن الشخص الذي جاء نتيجة لتسوية مؤقتة بات رهاناً وطنياً.
بالعودة إلى الكاظمي الذي كاد يصبح جزءاً من ذاكرة العراقيين المأساوية؛ إلى المكان الذي التقى تحت سقفه أعداء إقليميون ودوليون، وإلى المكان الذي خبأ فيه الراحل محمد مكية رسوماته عن بغداد التي لا تشبه «البعث»، إلى البيت الذي جمع فيه نجله كنعان ورفاقه ذاكرة ضحايا صدام الشفوية، إلى غُرَفِه التي تحتفظ بملفات صفاء السراي ورهام يعقوب وهشام الهاشمي، وضحايا المظاهرات... هناك فشلت جمهورية الخوف الجديدة في إزاحة «الكاظمية».