بقلم- مصطفى فحص
يستمر المُقيم بقصر بعبدا في ممارسة مخالفته الدستورية، محاولاً إشغال منصبين، أو إعادة صلاحيات منصب رئيس الوزراء إلى مرحلة ما قبل الطائف، والتعامل معه وزيراً أول مجرداً من كثير من صلاحياته التنفيذية، خصوصاً تلك التي تتعلق بتشكيل الحكومة، فعلى ما يبدو أن ميشال عون وهو رئيس للجمهورية يعمل على فرض تشكيلة وزارية مستنسخة عن حكومة حسان دياب، مع مراعاة شكلية للتوصية الفرنسية، التي يحاول فرقاء السلطة الانقلاب عليها منذ لحظة إغلاق طائرة الرئيس ماكرون أبوابها استعداداً للإقلاع.
بعد مغادرته بيروت، لم تدم رائحة العطور الفرنسية على أثواب السلطة، فما فاح ويفوح في الأيام الأخيرة من روائح الصفقات والمحاصصة وتوزيع الأدوار بين أهل السلطة لا يختلف عن روائح التشكيلات السابقة، وكأن هذه الطبقة الحاكمة لم تشتم رائحة الموت في بيروت ولم تُكوَ بعد بنيران الرابع من أغسطس (آب)، بعد أن منحتها زيارة ماكرون في الأول من سبتمبر (أيلول) فرصة للقيام بانقلاب مضاد يعيد عقارب الساعة إلى ما قبل 17 أكتوبر (تشرين الأول).
عملياً تنتهي المهلة التي منحتها باريس للسلطة لتشكيل الحكومة نهاية هذا الأسبوع، حيث تشهد العاصمة حركة سياسية صامتة وغامضة، تحاول إنجاح الطبخة الحكومية بما يطمئن باريس ولا يغضب واشنطن ويريح أطراف السلطة، لذلك سيكون مذاق التشكيلة بطعم توابل الخليلين (حسين خليل المعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله»، وعلي حسن خليل المعاون السياسي لرئيس حركة «أمل») ومن الطبيعي أنهما لن يتخليا عن مبدأ الثلث المعطل داخل الحكومة، وإعطاء الحصة الأكبر من الحقائب المخصصة للمسيحيين لميشال عون الذي يحتاجها لتحسين واقعه المسيحي المتراجع بعد الانقلاب الاجتماعي الذي يشهده الرأي العام المسيحي بعد تفجير المرفأ.
يحرص ثنائي السلطة («حزب الله» والتيار العوني) على إنجاح مشروع ماكرون، وتلبية عملية التخادم الفرنسي الإيراني، وذلك تجنباً لمزيد من الضغوط التي تمارسها واشنطن، فالبيت الأبيض أوفد إلى بيروت ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى مباشرة بعد مغادرة ماكرون، والذي أطلق مجموعة تصريحات مبهمة، تُظهر حرصه المشروط على المبادرة الفرنسية المبني على معادلة لا تغطية ولا عرقلة حتى الآن. إلا أن باريس تعلم جيداً أن نجاح مشروعها ولو جزئياً يحتاج إلى مباركة أميركية وخليجية لا تزال غير متوفرة، كما أن شينكر وأثناء وجوده في بيروت لوح أكثر من مرة بأن سلاح العقوبات من الممكن أن يُستخدم في أي لحظة، ولكن ما تلوح به واشنطن من عقوبات اقتصادية وسياسية على شخصيات سياسية لبنانية من خارج «حزب الله» سيكون انعكاسه مباشرة على الحكومة، فإذا فرضت واشنطن عقوباتها قبل التشكيل معناه أنها قررت تعطيل المشروع الفرنسي، وإذا فرضتها بعد التشكيل فمعناه أنها لا تثق بالحكومة وقررت الإطاحة بالمشروع، كما أنه ليس من المُستبعد أن تستفيد باريس من ورقة العقوبات لتحقيق مزيد من المكاسب.
خطأ المبادرة الفرنسية على اللبنانيين أنها رمت حبل النجاة لمنظومة فقدت شرعيتها الدستورية والشعبية والأخلاقية، وهي التي تملك دهراً من الخبرة في التسويف والالتفاف واللعب على التناقضات والرغبات، ففي ذروة خسائرها قدم لها الرئيس ماكرون في زيارته الثانية مكاسب مجانية، وأقر بشرعية تمثيلها وطالب بمنحها فرصة للقيام بإصلاحات مستحيلة، وبالغ في مراعاتها عندما أزاح عبء تسمية رئيس الوزراء عن كاهل الثنائية الحاكمة، وقدم لهما اسماً رديفاً لا طعم له ولا لون، يتيح لهما مجالاً للتحكم ولو عن بُعد في قرارات الحكومة واستكمال تفريغ منصب رئاسة الوزراء من صلاحياته، فقد اختار ماكرون موظفاً لا يمتلك شرعية ميثاقية وفقاً لقواعد التمثيل الطائفي (رغم أن رؤساء الحكومة منحوه بعضاً من المشروعية) ولا شرعية شعبية بالنسبة لمطالب انتفاضة «17 تشرين» ومعاييرها، وهو غطاء فرنسي في استكمال الانقلاب على اتفاق الطائف وعلى الانتفاضة.
يراهن ماكرون على خطب ود صناع القرار اللبناني، ويستخدم لغة متناقضة لتبرير تفاهمات جرت قبل التكليف من أجل تسهيل التأليف الذي يسير في حقل ألغام قد تنفجر تحت ضغط التفاصيل وشياطينها، فالمنظومة لا تزال تحافظ على أدواتها ولن تتردد في جر لبنان إلى مغامرة مجهولة النتائج إذا لم يُعد ترتيب السلطة وفقاً لشروطها، فما أتقنت إفساده خلال دهر لا يمكن لعطار أن يصلحه بزيارتين، وعلى الأرجح أن ماكرون العائد إلى بيروت في شهر ديسمبر (كانون الأول) سيكرر عبارة يرددها ميشال عون دائماً عندما يحاول التنصل من مسؤولياته «ما خلوني»!