ربما ليس ثمة ثابت في التاريخ سوى عدم ثباته واستدامة حركته المتغيرة بشكل مدهش. من حقبة إلى حقبة لا يني هذا التاريخ، العصي مستقبله على الفهم، يسخر من المتصدين للتنبؤ بمساراته. تبدو أحداثه في هذا الطور أو ذاك من الزمن وكأنها تتلاحق في مسار يبدو مُعلماً بالمستقبل، مغرياً كثيرين للتسرع بإطلاق تقديرات وتنبؤات بما سوف تكون عليه مآلاته. ثم لا يلبث أن يصدمهم بحركاته المفاجئة وانعطافاته، منحرفاً على يمين المسار وشماله، مرتكساً إلى الوراء تارة، أو خارجاً منه تماماً ومستحدثاً مساراً آخر جديداً.
قبل عقدين أو أكثر قليلاً انتشت النبوءة العارمة بحتمية اندراج البشرية ودولها وشعوبها وحصريته في مسار الديموقراطية الليبرالية، وبكونه المسار الإنساني الأخير والوحيد الذي آل إليه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الكتلة الاشتراكية ومشروعها الأيديولوجي.
تجسدت حينها تلك اللحظة التاريخية، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، شديدة الكثافة، وبالغة الوطأة، في انهيار المثال الأبرز والأقوى للنظرية شبه الوحيدة التي تحدت فكرة الرأسمال وإنتاجاته وصياغاته لحياة المجتمعات واقتصاداتهم وثقافاتهم. فداحة الانهيار للإمبرطورية والأيديولوجية اللتين سيطرتا على ثلث العالم تقريباً خلال سبعة عقود أو أقل وفجائيته وضخامته، تفسر جزئياً هوس التنظير الظافري، الذي مثل فرانسيس فوكوياما ذروته الأيديولوجية بالاستعجال بالتبشير بأبدية و «سرمدية» نموذج الديموقراطية الليبرالية.
فوكوياما افتتح المشهد التنبئي العريض، وآخرون لا حصر لهم لحقوا، مطلقين العنان لتفاؤل جامح يقول إن شعوب العالم ومجتمعاته تتجه، وإن بسرعات متفاوتة، نحو تبني نموذج الديموقراطية الليبرالية، لأنه النموذج الأكثر استجابة لتطلعات حرية الإنسان بالدرجة الأولى، وإطلاق طاقاته، وتحقيق توازنات تقدم على الاختيار لا القسر. صحيح أن العماد الاقتصادي للنموذج يقوم على رأس المال الذي يخلق تفاوتاً هائلاً وكبيراً بين البشر ويهدد تحقيق العدالة الاجتماعية، وهي المسألة التي تفوق فيها النموذج الاشتراكي المُنقضي، بيد أن مآلات ذلك التفاوت، كما بشرت الليبرالية، ستنتظم في آليات ضابطة تقلل من منعكساتها، وتقلص فجواتها. لكن المرتكز الثاني لليبرالية، وهو الديموقراطية، كان الأكثر جاذبية لتوق إنساني عميق نحو الحرية والانفكاك من السلطويات والاستبداد. وعليه، فقد ارتكزت النبوءة المبشرة والتفاؤل الكبير الذي تغنت به، على هبات ديموقراطية في هذه المنطقة أو تلك من العالم، كان أولها وأهمها التحولات الديموقراطية الكبرى في دول أوروبا الشرقية، ولحقتها تحولات بعض جمهوريات آسيا الوسطى التي خضعت طويلاً لحكم السوفيات، ثم في أكثر من دولة وحالة في أميركا اللاتينية وبعض مناطق آسيا وأفريقيا.
إذن سقطت الأيديولوجية الأكثر تهديداً لليبرالية الديموقراطية، وحق لهذه الأخيرة أن تنتشي ولو ظرفياً.
الأيديولوجيات الأخرى المتبقية في المشهد العالمي بعد اختفاء الأيديولوجيا الماركسية لم تكن تشكل تهديدات حقيقية لليبرالية، وظلت ثانوية أو مكملة لواحدة من أيديولوجيتي الصراع الكبرى. أبرز تلك الأيديولوجيات التي حاولت أن تملأ الفراغ المُستحدث كانت الأصوليات الدينية.
لكن تمثلات تلك الأصوليات وحركاتها الدينية لم تحتل سوى مواقع متفاوتة في خريطة الصراع الأيديولوجي والسياسي العريض بين الليبرالية والماركسية، ووقعت بالمجمل فريسة التوظيف من قبل واحدة من الأيديولوجيتين المتنافستين (كما حدث على مدار سنين طويلة في المنطقة العربية وأفغانستان وباكستان).
لم تشكل أي من الأيديولوجيات الأصولية بحد ذاتها طرحاً متماسكاً ومتكاملاً يصل إلى مرتبة طرح البديل العالمي. هامشية الحركات الدينية والأصولية أسست (ورسخت) النظرة لها بكونها زائلة وبأن نهايتها هي الانقضاء الحتمي رغم استطالة عمرها النسبي هنا أو هناك. رآها مفكرون كثر على أنها مجرد طفرة على جنبات التطور الإنساني الآيل نحو سيادة العقلانية والبراغماتية على حساب الدين والغيبيات -أو هي شهقة الموت الأخيرة قبل الأفول النهائي للدين مقابل العقل-. وتأسيساً على هذه النظرة، فإن كثيرين لم يأخذوا أطروحة صاموئيل هانتنغتون حول صراع الحضارات (... أو الأديان) مأخذاً جدياً، ولم تحظ مقولاته حول تحول صدام الأيديولوجيات المنقضي إلى صدام بين حضارات وأديان شعوب العالم، بالاحترام في أوساط الفكر والثقافة الرصينة، وإن بقيت مُشتهرة في الخطابات الشعبوية هنا وهناك، غربيها وشرقيها.
بعد مرور عقدين ونصف على لحظة انتصار الليبرالية الديموقراطية، والتنظير لها والاحتفاء بغلبتها، كيف يتبدى مشهد السياسة والأيديولوجيا عالمياً وإنسانياً؟ ربما يمكن القول أولاً إن الفكرة الليبرالية الديموقراطية تشهد جموداً ملحوظاً، إن لم يكن انحساراً تدريجياً، وإن كان بطيئاً.
هي بالكاد تسيطر على مساحاتها وجغرافياتها التي تعتبر مواقع حضورها ووجودها التقليدي -أي في أوروبا الغربية وشمال أميركا-، ففي الأولى تنهش تيارات اليمين المتطرف والعنصريات المتصاعدة، وكذا التمظهرات الانغلاقية للتعددية الثقافية، من اللحم الحي للنموذج الليبرالي الديموقراطي، وفي الثانية، وخاصة في الولايات المتحدة، يتفاقم تحالف المحافظة السياسية مع النزعة الدينية الصهيو- مسيحية، حاشراً الليبرالية في زاوية الدفاع الدائم عن النفس. وفي الحالتين الاثنتين، الأوروبية والأميركية انحسرت، إن لم تكن توقفت، فكرة الدفاع عن التحولات الديموقراطية في العالم، وارتكست السياسات إلى حقبة الحرب الباردة حيث المصالح العارية تدوس الترويج لأي قيم ديموقراطية أو ليبرالية، وهو ما تكشف على نحو فاضح في التردد الأولي لتأييد التغيرات المحتملة لانتفاضات الربيع العربي، ثم حسم الموقف بالاصطفاف مع «النظام القديم» و «الوضع القائم».
بعيداً من «الفضاء الغربي» برزت ولا تزال، تنويعات لسياسات وأفكار مختلفة أو هجينة، وليست بالضرورة متبلورة على شكل أيديولوجيات منافسة، لكنها بالتأكيد واقعة خارج التصنيف «الليبرالي الديموقراطي». أول «النماذج» مما يقضم من «الفضاءات الحيوية» لليبرالية الديموقراطية هو نموذج الليبرالية غير الديموقراطية، كما في روسيا والصين، أو الديموقراطية غير الليبرالية، كما في الهند. في حالتي روسيا والصين ثمة مكونات عديدة، خاصة اقتصادية، مستوردة من أو معدلة عن الأصل العائد للنظرية الرأسمالية، في شكلها وعضوية علاقتها مع الليبرالية الديموقراطية. لكن هذه المكونات صارت تشتغل كوحدات مستقلة وليس كجزء من كل هو النموذج الأم. النموذج الروسي- الصيني الذي يقول بإمكان تحقيق اقتصاد ناجح وفعال (... وليبرالي) من دون الاضطرار إلى تبني سياسة ليبرالية وديموقراطية حقة، يحقق حضوراً، أو ترجمة وتقليداً له في مناطق كثيرة من العالم، ومن ضمنها العالم العربي.
هذا «النموذج» هو إعادة تأهيل للاستبدادوية والسلطوية، وحمايتها من تهديدات المكون الديموقراطي الذي يستكمل المكون الليبرالي في النموذج الأم. في الحالة الهندية، وهي أكبر ديموقراطيات العالم، هناك صيغة بالغة التعقيد لديموقراطية واسعة لكنها مشوهة بطبقيات اجتماعية وجهوية تخترقها الأصولية الهندوسية التي يكرسها ويمأسسها الحزب الحاكم. وفي الحالات الثلاث، وعلى الضد من الفكرة الليبرالية، تستجمع القوميات (الروسية والصينية والهندية) طاقتها القصوى لتعبر عن تميزها وتفوقها (الجنسوي) وتعاليها على الآخرين، وتنتج خطابات تقترب كثيراً من الشوفينية البحتة.
ثاني النماذج المطروحة حالياً، خاصة في الشرق الأوسط، هو ما تقدمه الحركات والتصورات الدينية، خاصة تلك التي لا تعترف بفكرة «الدولة» وتريد أن تستجلب أشكالاً فوق- دولتية (كما هي الحالة الداعشية)، أو تلك التي تعتمد على «الدولة- القاعدة» لكنها تتجاوزها من خلال استبطان مرجعية دينية عابرة للحدود ولا تعترف بها، بدعوى الدفاع عن أتباعها في كل مكان (كما هي الحالة الإيرانية). ما تطرحه هذه الأصوليات لم يكن يؤخذ بجدية في العقود الماضية، كما لم تؤخذ الأطروحة الهانتنغتونية بالجدية الموازية، لكنها اليوم أصبحت جزءاً فعالاً من المشهد وتقدم تهديدات حقيقية للأوضاع القائمة. من ناحية المضمون والمكون الفكري، هي مناقضة تماماً وجذرياً لليبرالية وللديموقراطية وترفضهما كلياً. والملفت والخطير معاً في شأن الأصوليات الدينية، يكمن في تجاوز تأثيراتها وانعكاساتها وما يمكن أن تحدثه في فضاءات المعسكر المنافس. فهنا تؤثر الدعاوى الأصولية المتطرفة على الفضاء الليبرالي الديموقراطي نفسه وتشكك في صحته حتى عند أهله، وتساهم بقوة في نشوء تيارات متطرفة وعنصريات رافضة لليبرالية نفسها بكونها تسمح لمن هو غير ليبرالي وغير ديموقراطي بالعمل وتعترف بوجوده. وهكذا، هل بالإمكان القول إن خلاصة المشهد تقول إن ثمة صعوداً أيديولوجياً وديموغرافياً لثلاثة تيارات كبرى هي: الليبرالية غير الديموقراطية، والديموقراطية غير الليبرالية، والأصوليات غير الدولتية، بشكل ينتج مساراً تاريخياً جديداً يترك وراءه حقبة الليبرالية الديموقراطية وكأنها حقبة منقضية في تاريخ الإنسانية، أم أن مثل هذا القول يقع في شراك التنبؤ المتسرع الذي أشارت إليه مقدمة هذه السطور؟