بقلم : خالد الدخيل
بعد إعلان ترسيم الحدود البحرية بين السعودية ومصر، وإعادة مصر - بناء على ذلك - جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، انفجر فجأة جدل حاد بين تيارين في النخبة المصرية. تيار اعتبر إعادة الجزيرتين نتيجة طبيعية ومتوقعة، استناداً إلى أدلة ومعطيات تاريخية وقانونية. ولعل الدكتور مصطفى فؤاد عميد كلية الحقوق في جامعة طنطا أكثر من تحدث بأسلوب أكاديمي متصل عن أدلة ومستندات الملكية السعودية للجزيرتين. فعل هذا وهو يتحدث من الهاتف في برنامج «العاشرة مساء» عبر فضائية "دريم 2" المصرية. وقبله وبعده نشرت بعض الخطابات الرسمية مع اتفاقي 1840 و 1906 مؤكدة الشيء نفسه. ثم جاءت صحيفة "الأهرام" لتختصر موقف هذا التيار في افتتاحيتها يوم الإثنين 11 نيسان (أبريل) الجاري بعنوان: «وعادت الوديعة إلى أهلها». وهو تيار يبدو أنه يمثل الغالبية بعدد كبير من السياسيين الحاليين والسابقين، والأكاديميين وخبراء القانون.
التيار الآخر لم يرَ في النتيجة التي انتهى إليها ترسيم الحدود إلا تنازلاً مجانياً من حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي لا مبرر له. أكثر ما يلفت الانتباه في موقف المعترضين أنه تطغى عليه سمة الشحن العاطفي بسذاجة لافتة، وتحديداً في بعض برامج الفضائيات الخاصة. لا أريد أن أذكر أسماء هنا، تفادياً للبعد الشخصي للموضوع. لكن دونك هذا المقطع باللهجة المصرية نموذجاً على ما أشير إليه، وهو مقطع جاء ضمن برنامج عن الموضوع في فضائية «OTV»، يقول بالنص: «وهو السعودية اللي قاعدة تتفرج على الجزيرتين بتوعها من 1950 لحد 2016! احنا نحارب، وهم بيتفرجوا! احنا نموت وهم بيتفرجوا! احنا دمنا يسيل وهم بيتفرجوا! وبعدين؟! صباح الخير... احنا أخذنا الجزيرتين! صباح الفل يا ريس!». هذا استجداء لشعبية مفقودة كما يبدو، أو تعبير عاطفي ساذج عن صدمة مفاجئة. مهما يكن، فهكذا يتم التعامل مع علاقات دولتين عربيتين، وتاريخ قضية حساسة بكل متعلقاتها، ومفاوضات استمرت في شأنها ست سنوات. طبعاً لا يجوز التعميم هنا. فكما ذكرت هناك أصوات مصرية تناولت الموضوع بدرجة عالية من الموضوعية والمسؤولية، سواء قبلت بعودة الجزيرتين إلى السعودية أم لم تقبل. ولعلي أشير هنا إلى ما كتبه سعد الدين إبراهيم في صحيفة "المصري اليوم"، وفهمي هويدي في صحيفة "الشروق" المصرية، وعادل حسين مدير تحرير هذه الصحيفة، وغيرهم.
اللافت أن انفجار الجدل على هذا النحو حصل حيال قضية لم تكن محل خلاف من قبل بين السعودية ومصر. جرت مياه ضخمة في مسار العلاقات السعودية المصرية منذ العهد الملكي حتى الآن، تخللتها خلافات، وصدامات، وتحالفات، وصداقات، وأزمات، ولم تبرز خلال ذلك أية إشارة إلى خلاف حول عودة ملكية تيران وصنافير إلى السعودية. حتى الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، الذي عاش في قلب هذا المسار حتى رحل قبل أسابيع، ذكر في كتابه «سنوات الغليان» الصادر عام 1988 الملكية السعودية للجزيرتين، وذلك في سياق حديثه عن خلاف أميركي - إسرائيلي إثر العدوان الثلاثي، يتعلق بمسألة حرية الملاحة في خليج العقبة والوجود العسكري المصري في غزة آنذاك. يقول هيكل بالنص: «بدا أن السياسة المصرية استقرت على خيار يعطي للملك سعود، ملك المملكة العربية السعودية، مهمة مواصلة بحث هذه القضية مع الإدارة الأميركية. وكان هو أكثر المتحمسين لهذا الخيار على أساس اعتبارات عدة، أولها أن جزر (كذا) «صنافير» و «تيران»، التي كانت مصر تمارس منها سلطة التعرض للملاحة الإسرائيلية في الخليج، هي جزر سعودية جرى وضعها تحت تصرف مصر بترتيب خاص بين القاهرة والرياض». (ص 91). قال هذا الكلام قبل حوالى سنتين من القرار الجمهوري عام 1990، الذي استندت إليه الحكومة الحالية في موقفها، ضمن مستندات أخرى. وعندما أضع هذا الاستشهاد، فلأنه من رجل عاصر غالب تقلبات العلاقات السعودية - المصرية منذ 1950، وكاتب واسع الاطلاع على التاريخ المصري الحديث، وشديد الاهتمام بالوثائق. والأهم في هذا السياق أنه لا يمكن اتهامه بمحاباة السعودية، وقد كان من أبرز خصومها في مصر.
من هذه الزاوية يقفز سؤال عن الدلالات التي ينطوي عليها المنحى الذي اتخذه الجدل المصري. من بين ذلك نجد أولاً أنه ثمرة ازدواجية السياستين الداخلية والخارجية لحكومات مصر المتتالية، ففي السياسة الداخلية بقيت المناهج الدراسية تغرس في أذهان الطلاب منذ عقود أن جزيرتي تيران وصنافير تقعان ضمن الأراضي المصرية. وفي الوقت نفسه تتعامل أجهزة الدولة الأخرى، وبخاصة رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية، مع الجزيرتين على أنهما وديعة سعودية لدى مصر. ولأنه لا يمكن التوفيق بين هاتين السياستين حصلت الصدمة العاطفية لدى كثيرين بعد إعلان الاتفاق! وهي صدمة عبّر عنها بعضهم بشحن عاطفي في الفضائيات. وأشار إليها فهمي هويدي من ناحيته، برؤية نقدية هادئة، عندما قال: «ليس سهلاً أن يستيقظ المرء ذات صباح ليفاجأ بأن ما تعلمه في المدارس، وما وقع عليه في الخرائط... وما ردده المطربون... غير صحيح». من الواضح أن الحكومة المصرية لم تهيئ الرأي العام للاتفاق. وتفسير الرئيس السيسي لذلك أنها لو فعلت لحصلت الضجة ذاتها، بما قد يربك المفاوضات مع السعوديين. لكن من الناحية الأخرى نجد أيضاً أن من صدم بالاتفاق ونتيجته كان أسيراً لما تعلمه من المناهج في سنواته المبكرة، ولم تتجاوز حدود معرفته في هذا الموضوع ذلك المستوى، ويبدو تصور الرئيس صحيحاً. هنا تبدو الصورة مربكة، ليس نتيجة للازدواجية فحسب، بل لارتباك بعض النخبة المصرية نتيجة توقف نموها المعرفي، وضيق رؤيتها السياسية. الدلالة الثانية أن جماعة "الإخوان المسلمين" اعتبروا الاتفاق في مثل هذه الأجواء فرصة للانقضاض على السيسي والانتقام منه. وهذه رؤية تفتقر إلى الحصافة والذكاء السياسي، لأنها استثمار في الفرقة وإثارة النعرات بين شعبين عربيين، وسيكون "الإخوان" أول من يدفع ثمنها. كأنهم لم يتعلموا من افتقارهم إلى الذكاء السياسي عندما وصلوا إلى الحكم.
ثالثاً، هناك تيار متذمر من السياسات المحلية لحكومة الرئيس السيسي. وهو تيار مدني يتجاوز "الإخوان" إلى من كانوا حلفاء السيسي بعد 30 حزيران (يونيو) 2013. لكنهم مثل "الإخوان" كانوا يبحثون عن مدخل للتعبير عن تذمرهم، وظنوا أنهم وجدوا ذلك في اتفاق ترسيم الحدود. ثم هناك حمدين صباحي، المرشح الرئاسي السابق، الذي خسر الانتخابات أمام السيسي، والتيار الذي يمثله. يبدو أن صباحي وجد في الاتفاق أيضاً فرصة لإعادة تسويق اسمه في الساحة السياسية. كان الرجل، على العكس من بعضهم، مهذباً في التعبير عن موقفه. إلا أنه في المضمون لم يختلف كثيراً.
لكن أكثر ما يلفت النظر في الجدل المصري هو الحس القبلي المضمر في مواقف كثير من المعترضين. فهم مثل أبناء القبائل العربية القديمة، لا يقبلون الاحتكام إلا إلى قبائلهم وأعرافها. فلا يقيم هؤلاء وزناً لقانون. وهذا أمر طبيعي قبل قيام الدول الوطنية بحدودها وقوانينها والتزاماتها الدولية. ومثل أولئك يقول المعترضون على إعادة الجزيرتين: إنهم لا يقبلون حكماً في هذا الموضوع، لا رئاسة الجمهورية، ولا وزارة الخارجية، ولا حتى البرلمان. لا يقبلون إلا رأي الشعب المصري، استناداً - كما يقولون - إلى المادة 151 من الدستور المصري. فاتهم أن إلزامية هذه المادة، ومعها إلزامية رأي الشعب محصورة داخل الحدود الجغرافية المصرية فقط. وبالتالي لكي يمكن تفعيل مقتضيات هذه المادة يجب أولاً إثبات أن الجزيرتين تقعان ضمن الأراضي المصرية في شكل قاطع ونهائي. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بين الدول، وفقاً للوثائق والمستندات والقانون الدولي. من هذه الزاوية، لا يعتبر ما وافقت عليه حكومة السيسي في اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع السعودية تنازلاً عن شبر من أراضي مصر. وإذا كان هذا موقف مصر من العهد الملكي حتى نهاية عهد حسني مبارك، فهل يمكن القول: إن بعضهم من النخبة المصرية يجهل ذلك؟ أم إنه يتجاهله؟ وهل هذا الموقف موجه ضد عبدالفتاح السيسي حصراً، أم أنه موجه من خلاله إلى السعودية؟