بقلم : خالد الدخيل
يتساءل البعض لو أن الراحل حافظ الأسد كان رئيس سورية عندما اندلعت أول شرارة للثورة في درعا في 15 آذار (مارس) 2011، هل كان سينتهي به الأمر إلى المأزق الذي انتهى إليه ابنه بشار الآن؟ سؤال صعب لأن الإجابة عنه تستدعي افتراضات واشتراطات كثيرة. لكنه يبقى سؤالاً سيظل يفرض نفسه ليس أقل من أنه يتعلق بمسار سياسي متصل بدأ مع الأسد الأب في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، ووصل ذروة ارتباكه في شباط (فبراير) عام 2005، لينتهي إلى ذروة مأزقه الآن. وهو مسار ليس مبتوراً تماماً عما سبقه، لكنه مثّل انحرافاً واضحاً نحو هدف سياسي مضمر وغير قابل للإعلان عنه في شكل مباشر. وهو في ذلك ليس أكثر من تجسيد شاذ في تطرفه لإشكالية الحكم في التاريخ السياسي العربي. انطلاقاً من ذلك يمكن القول إن بذور المأزق في هذا المسار مدفونة في حقيقة أنه كان يراد له أن يقود إلى تأسيس سلالة حكم في الشام في إطار سياسي جمهوري، وتحت ظلال حزب البعث بنزعته «القومية»، وبقيادة عائلة صغيرة (الأسد) جعلت من انتمائها المذهبي (العلوي) الصغير أول وأهم حصونها أمام المجتمع السوري بأغلبيته السنّية. بذور الشقاق وما ستنتهي إليه من مآزق كثيرة في هذا المسار عدة أهمها وأخطرها تصادم الجمهوري مع السلالي، والقومي مع المذهبي، والأقلية مع الأكثرية. وهذه تصادمات فرضت، بحكم تضافر ضرورات طبيعة النظام أحياناً والحماقة أحياناً أخرى، تبني سياسات متطرفة تجمع التكاذب مع القمع والعنف كسياج يراد له أن يكبت هذه التناقضات إلى الأبد.
شاءت المصادفة التاريخية أن يواجه هذا النظام امتحانه القاتل مع موجة ثورات الربيع العربي في عهد الأسد الابن. وهو الأمر الذي ضاعف من المأزق. فالثورة السورية عندما بدأت لم تكن حدثاً معزولاً كما كانت حال التمرد في حماة عام 1982. هي تتمتع بزخم شعبي إقليمي، صاحبه انبهار دولي. المدهش أن الرئيس بشار الأسد تجاهل، أو لم يدرك أهمية هذا الفارق الواضح، وأنه تصرف على العكس مما يقتضيه. لم يدرك الأسباب الحقيقية الداخلية للتمرد في درعا، ولقابليته للانتشار إلى مدن أخرى. من هنا طبّق أسلوب العنف المفرط نفسه الذي تعامل به والده مع حماة، أملاً بأن يؤدي ذلك إلى وأد التمرد ودفنه داخل درعا قبل أن ينتشر إلى خارجها. لم يدرك الأسد الابن أيضاً أن وضعه الإقليمي بات مختلفاً عما كان عليه قبل وراثته للحكم. كان والده إبان تمرد حماة في ذروة هيمنته على السلطة. وإلى جانب أن هذا التمرد كان معزولاً، كانت المنطقة منشغلة بحرب كبيرة تدور رحاها بين العراق وإيران. في هذا الإطار كان الأسد الأب يتمتع بعلاقات إقليمية قوية ومتوازنة، فضلاً عن أن تمرد حماة لم تكن له امتدادات إقليمية. وبالتالي تمكن من عزل المدينة وإخضاعها لعملية تدمير قاسية أريد لها أن تكون رادعاً أمام انتقال تأثيرات التمرد إلى مدن أخرى. ونجح في ذلك نجاحاً واضحاً. لكن الآثار النفسية والاجتماعية لمذبحة هذه المدينة بقيت ندوباً مريرة في الذاكرة الجمعية ليس فقط لمدينة حماة، بل للمجتمع السوري.
كانت صورة المشهد مختلفة تماماً عندما بدأت الثورة ضد الأسد الابن في درعا، وبدا ذلك في أمور ثلاثة لافتة، الأول أنها ثورة ريف ضد أهل المدن، وليس تمرد مدينة بمفردها. والثاني أنها في بدايتها كانت ثورة ضد النظام بما يمثله وينطوي عليه وليس ضد الرئيس تحديداً (هكذا كانت شعارات التظاهرات في البداية. لكن كيف يمكن الفصل بين الاثنين؟). ثالثاً أنها جزء من موجة إقليمية عاتية، وبالتالي يصعب عزلها خصوصاً في ضوء أن ثورة الاتصالات والفضائيات، والتواصل الاجتماعي في ذروتها. وزاد من اختلاف الصورة أن العلاقات الإقليمية للأسد الابن حينها كانت مرتبكة مع الأردن ولبنان ومصر والعراق والسعودية. كل ذلك كان يفرض على النظام التعامل مع الحدث بطريقة مختلفة، استيعابية وليست تصادمية. لكن طبيعة النظام العنيفة ومرتكزاته المذهبية لا تتسع لمثل هذه السياسة ومتطلباتها. الأهم من ذلك كما يبدو أن عملية التوريث التي وصل من خلالها بشار إلى الحكم أضعفت مؤسسة الحكم، خصوصاً الرئيس نفسه. وبالتالي صار أكثر قابلية لأن تستبد به هواجس اقتلاعه أمام تظاهرات كبيرة أخذت تنتشر عدواها، بعدما حصل للرئيسين التونسي والمصري، خصوصاً ما حصل للعقيد معمر القذافي في ليبيا.
وهذا إضافة إلى أن علاقة الأسد مع إيران وصلت إلى درجة التبعية، لم تكن لتسمح بالتعامل السياسي أيضاً. الأمر الذي ضاعف من ارتباك النظام أمام الأحداث، وأدخل نفسه في حلقة مفرغة أمام الثورة، فكلما زاد عنف النظام انتشر نطاق الثورة. كان الأسد يأمل بأن تحالفه مع إيران سيمكنه من القضاء على الثورة. فتح باب سورية أمام الميليشيات التي تمولها وتسلحها إيران. لكن هذا لم يسعفه إلا في إطالة أمد الثورة، وليس القضاء عليها. أنقذه الإيرانيون من السقوط مبكراً. وساعدهم في ذلك انكفاء إدارة باراك أوباما الأميركية. لكن تبين للأسد في صيف العام الماضي أن وضعه يزداد سوءاً، وأنه لم يتبقّ أمامه إلا المحافظة على المناطق التي تحت سيطرة قواته، والتضحية في سبيل ذلك بالمناطق الأخرى التي تسيطر عليها مختلف فصائل المعارضة. تدخل الروس في أيلول (سبتمبر) الماضي لإنقاذه ومساعدته في استعادة بعض ما خسره. لكنه تدخل لم يضع حداً نهائياً لارتباك الأسد ونظامه. فمع أن الروس مع بقاء النظام، إلا أن موقفهم من بقاء الأسد نفسه ليس واضحاً تماماً. وضاعف من هذا الغموض أنه بعد ستة أشهر من التدخل الروسي أعلن بوتين سحب معظم قواته. تزامن هذا مع بداية مفاوضات جنيف 3، واستمرار النظام في تفادي الاقتراب من أي حل سياسي يطاول مستقبل الأسد، يعني أن الانسحاب ورقة ضغط على الأسد ونظامه.
هذا يعيدنا الى السؤال الأول: هل كان الأسد الأب سيتصرف بطريقة مختلفة؟ الأكيد أنه كان أكثر نضجاً وحنكة من ابنه في موضوع السياسة الخارجية والتوازنات الإقليمية. حافظ على علاقته مع السعودية ومصر على رغم اختلاف السياسات الإقليمية معهما. تحالف مع إيران لكنه لم يسمح لها بمنافسته في لبنان أو استتباعه كما حصل مع ابنه لاحقاً. أذعن لتهديد تركيا في أواخر ثمانينات القرن الماضي وعملياً سلم المعارض التركي عبدالله أوجلان لها. وبما أن نضجه في السياسة الخارجية انعكاس لهواجسه في الداخل، ربما أنه كان سيتصرف، لو امتد به العمر، مع الانتفاضة بطريقة أكثر نضجاً وأقل تصادمية. ربما قيل إن الطبيعة الهشة للنظام لا تحتمل في كل الأحوال أي تحدٍ داخلي. وهذا صحيح. لكن ينبغي الانتباه إلى أن فشل الأسد الابن على المستويين المحلي والإقليمي فرض استتباعه إيرانياً، ما ضاعف بالتالي من هشاشة حكمه ورعونة ردود أفعاله داخلياً وخارجياً.
هنا يتبدى المأزق القاتل للأسد الابن. بدلاً من وأد الثورة، ها هي تحتفل بالذكرى الخامسة لانطلاقتها. لم يعد يمسك بالورقة السورية. أصبحت في أيدٍ كثيرة. هو نفسه بات ورقة تفاوضية في أيدي الروس والإيرانيين. وباتت سورية تقاوم فرض التقسيم عليها. قتل مئات الآلاف، وجرح وهجر عشرات الملايين، ودمرت المدن، والأسد لا يزال يصر على البقاء في الحكم الذي ورثه. يقاوم الاعتراف بأنه لا حل سياسياً من دون رحيله كمن يقاوم مقصلة الإعدام.