ومن لم يحكم بما أنزل الله

ومن لم يحكم بما أنزل الله

ومن لم يحكم بما أنزل الله

 العرب اليوم -

ومن لم يحكم بما أنزل الله

بقلم : خالد الدخيل

تقر الأحاديث السياسية نصاً بالطبيعة السياسية للحكم، وأن هذه الطبيعة مستقلة عن الشأن الديني بمتطلباته وضروراته، وأنها بذلك مستمرة في سيرورتها إلى منتهاها، امتثالاً لمشيئة الله التي لا راد لها (انظر الأحد 19 آذار (مارس) 2017، والأحد 30 نيسان (أبريل) 2017)، تبدأ هذه السيرورة بخلافة النبوة، وتنتهي بالملك العضوض. من ناحية ثانية، نجد «أن سردية ومضامين هذه الأحاديث عن التاريخ والحكم، ومؤداها في الأخير إنما هو إقرار ضمناً - لا تصريحاً - بأن انفصال الديني عن السياسي، وتناقض الملك (الدولة السياسية) مع الخلافة (الدولة الدينية) إنما هما من طبائع الأمور التي مضت بها إرادة الله، وأن لا أحد - حتى النبي - يملك القدرة على رد هذه الإرادة من الوصول إلى خواتيمها». («الحياة»، الأحد 19 آذار 2017). بعبارة أخرى، خواتيم هذه السيرورة تنتهي وفقاً للأحاديث السياسية ذاتها، بمختلف رواياتها بتراجع الخلافة، أو الدولة الدينية لمصلحة دولة الملك، أو الدولة السياسية.

تضاف إلى ذلك حقيقة أخرى، وهي غياب مفهوم الدولة بدلالته الدستورية والسياسية، وكإطار للحكم في القرآن الكريم تماماً، يرد في القرآن حض على قيم ذات صلة بالحكم، مثل العدل والمساواة، والقسطاس، والشورى، وغيرها من المفاهيم. لكن الحض عليها في هذا السياق ليس باعتبارها آليات أو شروطاً سياسية أو قانونية ملزمة لنوع معين من الحكم، وإنما باعتبارها قيماً إنسانية عليا يستحسن التمسك بها، وأن من يفعل ذلك سيثاب عليه. يتسق مع هذا المعنى أن الأحاديث السياسية، وهي تقر بحتمية التحول من الدولة الدينية إلى الدولة السياسية، تحض الناس على الطاعة إلا في حال واحدة، وهي معصية الله، لأنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». أي أن انحراف الحكم في أمور الدنيا لا يجيز العصيان. أما الانحراف في أمور الدين فلا تجوز معه الطاعة. وفي هذا ما يمكن اعتباره تمييزاً واضحاً، أو فصلاً لمتطلبات الديني وضروراته عن متطلبات وضرورات السياسي الدنيوي. غياب مفهوم الدولة في القرآن (وهو النص المؤسس والمصدر الأول للتشريع) تتضافر معه دلالات الأحاديث السياسية، للتأكيد أن الطبيعة السياسية أو الدنيوية (عكس الدينية) لمسألة الحكم، وأن تناول هذه المسألة والتعامل معها خاضعان قبل أي شيء آخر لمتطلبات ونواميس هذه الطبيعة وليس لغيرها. في الوقت نفسه، نجد أن التجربة السياسية العملية في التاريخ الإسلامي، منذ السقيفة حتى الآن، تتضافر بدورها مع الأحاديث النبوية ومع القرآن، في تأكيد أن مسألة الدولة والحكم في الإسلام هي في أصلها مسألة سياسية دنيوية، وليست مسألة دينية، وبالتالي خضعت في نشأتها وتحولاتها لنواميس الدنيا، والمجتمع الإنساني قبل خضوعها لأي شيء آخر.

السؤال هنا: ألا تنطوي هذه الملاحظات أولاً على أن النصوص الإسلامية التأسيسية تقر في نهاية المطاف بانفصال الديني عن السياسي؟ وثانياً أن هذا الانفصال، تبعاً لذلك، كان ولا يزال سمة بارزة من سمات التاريخ السياسي الإسلامي؟ طبعاً لا بد من استثناء مرحلة الخلافة الراشدة عن هذا التعميم، وبخاصة في خلافة أبي بكر وعمر. وربما أن المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه «مفهوم الدولة» أول من لاحظ أن الخلافة الراشدة حال استثنائية، لا يتجاوز عمرها الـ30 سنة في التاريخ الإسلامي. وبالتالي لا يمكن أن تكون مرجعاً أو أساساً للحكم على طبيعة ومسار هذا التاريخ. وهو محق في ذلك.

السؤال المطروح أكبر من أن تفيه حقه مقالة في جريدة سيارة. لذلك من المناسب وضع استدراك مهم على السؤال، وقبله على الملاحظات، انطلاقاً من الآية القرآنية، التي تقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - (المائدة: 44). ألا تنسف هذه الآية، وهي ترد بصيغ مختلفة في القرآن، فرضية انفصال الديني عن السياسي في الإسلام؟ سأكتفي لضيق المساحة بما قاله المفسر الشهير أبوعبد الله القرطبي في تفسير الآية، على أن أعود إلى الموضوع لاحقاً. النص الذي سأستشهد به طويل إلى حد ما، لكنه ضروري. يقول فيه: «والظالمون والفاسقون نزلت كلها في الكفار. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم. وعلى هذا المعظم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل فيه إضمار؛ أي ومن لم يحكم بما أنزل الله، رداً للقرآن وجحداً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كافر». قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا.

قال ابن مسعود والحسن: «هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له. فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له». وقال ابن عباس في رواية: «ومن لم يحكم بما أنزل فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار. وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر. فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول». إلا أن الشعبي قال: «هي في اليهود خاصة». واختاره النحاس، قال: «ويدل على ذلك ثلاثة أشياء؛ منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله»: للذين هادوا، فعاد الضمير عليهم. ومنها أن سياق الكلام يدل على ذلك. ألا ترى أن بعده وكتبنا عليهم. فهذا الضمير لليهود بإجماع.

وأيضاً فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص. فإن قال قائل: «من» إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها، قيل له: «من» هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة، والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا من أحسن ما قيل في هذا. ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني إسرائيل؟ قال نعم هي فيهم، ولتسلكُنَّ سبيلهم حذو النعل بالنعل. وقيل «الكافرون للمسلمين، و «الظالمون لليهود»، و «الفاسقون للنصارى». وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: «لأنه ظاهر الآيات.. وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة والشعبي أيضاً». قال طاوس وغيره: «ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر. وهذا يختلف إن حكم بما «اعتقده» على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر. وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. (الجامع لأحكام القرآن، المجلد الثالث، ج 5-6، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408هـ 1988، ص 124).

هناك استثناءان في نص القرطبي؛ الأول أن من يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعرف أنه بذلك يرتكب محرماً فهو ليس بكافر، وإنما فاسق يعود أمره إلى الله. والثاني، أن من «من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية». وللحديث بقية.

المصدر : صحيفة الحياة

arabstoday

GMT 04:32 2018 السبت ,21 تموز / يوليو

لا حرب إيرانية - إسرائيلية

GMT 02:48 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

سورية مختلفة فعلاً

GMT 00:42 2018 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

GMT 11:25 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

كذبة الحرب الكبرى

GMT 08:49 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

خيار الحريري و«حزب الله»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ومن لم يحكم بما أنزل الله ومن لم يحكم بما أنزل الله



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab