الرؤى الكبيرة والطموحة كما أنها تحرض على الحلم تحرض على السؤال، والسؤال الكبير أيضاً. ورؤية السعودية 2030 التي طرحها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من هذا النوع. إذا ما تركنا للحظات البعد الاقتصادي بتساؤلاته وهمومه المشروعة، فإن السؤال الأول والأكبر هو: هل يمكن تحقيق تحول اقتصادي في مجتمع مثل المجتمع السعودي بالحجم والطموح اللذين تستهدفهما الرؤية من دون تحول سياسي وقانوني موازٍ له، أو لا يتأخر كثيراً في اللحاق به؟ قد يتساءل بعضهم: ولماذا التسرع في طرح مثل هذا السؤال الشائك والرؤية لا تزال كذلك؟ ولم تتحول بعد إلى خطة قيد التنفيذ؟ والإجابة واضحة. فالرؤية لم تتناول الجانب السياسي والقانوني للدولة وعلاقته بالتحول الاقتصادي المنشود، ما يفرض التساؤل مباشرة عن مبرر ذلك. وإذا كان الهدف إيجاد بنية اقتصادية جديدة، بمؤسسات وأدوات اقتصادية حديثة، فهل يمكن النجاح في تحقيق ذلك ولو بنسبة معقولة، في إطار سياسي واجتماعي وقانوني ينتمي في معظمه إلى مرحلة سابقة حتى على مرحلة النفط التي نطمح إلى تجاوزها؟
تبرز أهمية هذا السؤال ومحوريته من أمور عدة. فالعلاقة بين الاقتصادي والسياسي عضوية تكاملية، لا يمكن أحدهما أن يعمل بفعالية ونجاعة بمعزل عن الآخر. التحول الاقتصادي الذي تنشده الرؤية يتطلب وجود مؤسسات اقتصادية وسياسية منسجمة في أعمالها وأهدافها. وهو ما يتطلب بدوره بيئة سياسية وقانونية تؤسس لهذا الانسجام وتكون إطاره الذي يحميه.
الأمر الثاني أن الرؤية لا تختلف كثيراً في أهدافها عن الخطط والمشاريع التي سبقتها، وتحديداً خطط التنمية الخمسية ومشروع المدن الاقتصادية. وإذا عرفنا أن تلك الخطط والمشاريع فشلت فشلاً ذريعاً، فإن هذا يمكن أن يحدث لمشاريع الرؤية. لا بد من التساؤل عن أسباب فشل الخطط والمشاريع السابقة، وما إذا كانت البيئة السياسية والقانونية أحد أهم تلك الأسباب.
ثالثاً أن غالبية تجارب التنمية في الدول الأخرى تؤكد صحة العلاقة العضوية بين الاقتصادي والسياسي. هنا تبرز تجربة الصين على إمكان تحقيق تحول اقتصادي من دون تحول سياسي موازٍ له في الحجم والاتجاه. وهي تجربة تجمع حتى الآن بين نموذج السوق الرأسمالي اقتصادياً، والنموذج الشيوعي لحكم الحزب الواحد سياسياً. هل تستطيع السعودية تكرار هذه المعادلة؟ يفرض هذا السؤال على السعودية الاقتراب من تفاصيل هذه التجربة، وكيف تحققت، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها لم تصل إلى خواتيمها بعد، ولم تستقر على حال، كما هي حال النموذج الغربي والياباني مثلاً. لا يزال تفاوت التحول السياسي والاقتصادي مصدر قلق داخل الصين على رغم النجاح الاقتصادي الضخم، وهو قلق ينتظر مخرجاً سياسياً له.
على الناحية الثانية، تشير تجارب الدول الأخرى التي أطلقت مشاريع مشابهة للرؤية، إلى أن حجم نجاح التحول الاقتصادي يعتمد أساساً على مدى التحول السياسي والقانوني المصاحب له وحجمه. التجربة الغربية ونجاحها الكبير كانت الأولى في هذا السياق. جاءت بعدها تجارب اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا. كل هذه التجارب تؤكد أن تكامل (بغض النظر عن تزامن) التحول الاقتصادي والسياسي شرط مهم للنجاح وتحقيق الهدف الاستراتيجي للتحول. تشير تجربة روسيا، وإن في شكل عكسي، إلى أن تعثر التحول السياسي يقود على الأرجح إلى تعثر التحول الاقتصادي. حصل هذا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك عندما تحققت طفرة صناعية كبيرة بعد ثورة 1917. لكن الجمود الأيديولوجي وهيمنة أقلية صغيرة على الحزب الشيوعي والنظام السياسي، تضافرا مع بيروقراطية مترهلة، على تجميد الطفرة الصناعية، وبالتالي خنق التحول الاقتصادي بما انتهى إلى انهيار النظام السوفياتي في 1991. بعد هذا الانهيار، وعلى رغم الموارد الطبيعية والبشرية الضخمة التي تتمتع بها روسيا بما فيها النفط، إلا أن التحول الاقتصادي فيها لا يزال متعثراً. هناك عوامل عدة وراء ذلك، يأتي في مقدمها جمود البنية السياسية التي لم تتغير في جوهرها منذ 1917.
ما الذي يمكن استنتاجه من ذلك؟ نظراً إلى أن البنية السياسية تمسك بزمام قيادة الدولة والمجتمع، فإن جمودها سينعكس في نهاية المطاف على الجانب الاقتصادي، وإن اختلفت لحظة هذا الانعكاس من حال إلى أخرى. في حين أن توازيهما أو تعاقبهما هو استجابة لطبيعة التكامل بينهما، بما يعزز قدرة كل من السياسي والاقتصادي على التأقلم مع التغير في الجانب الآخر والاستجابة له، وبالتالي قدرة كل منهما على أن يكون عامل رقابة وضبط على الآخر. وهذا يساعد في تأمين الاستقرار في المجتمع ويعزز قدرته على امتصاص موجات التغير التي تترتب عادة على المشاريع الكبرى وعلى التأقلم في شكل أفضل مع تداعياتها.
في الحال السعودية، سيؤثر التحول الاقتصادي الذي تنشده الرؤية في المجتمع بكل مكوناته، خصوصاً القوى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تشكلت في مرحلة النفط. وبمقدار ما سيضاعف هذا التغيرات الاجتماعيةَ والاقتصادية والثقافية التي عرفها المجتمع خلال العقود الخمسة الماضية، سيضاعف مع الزمن من تلاشي الأساس الاجتماعي الذي ولدت فيه الدولة ابتداء. ومن دون استجابة سياسية لذلك، سيقود إلى هوة كبيرة بين الاجتماعي والاقتصادي من ناحية، وبين السياسي من ناحية أخرى. وهي هوة ليست في مصلحة أي منهما. في هذا السياق يبرز سؤال عما سيكون عليه رد فعل كل من مكونات المجتمع على نتائج وتبعات التحول المنشود؟ وهذه قضية سياسية وليست اجتماعية أو اقتصادية وحسب، وتشمل الدولة نفسها بكل مؤسساتها، وستفرض على الجميع مواءمات ومعالجات وتأقلمات على كل المستويات، الأمر الذي سيتطلب آليات سياسية وقانونية وتشريعية مختلفة عما كانت عليه الحال قبل التحول. هل ينبغي انتظار هذه التغيرات حتى تفرض نفسها ومتطلباتها، أم يجب استباقها استعداداً لما يمكن أن تفضي إليه؟
هناك مثلاً إشكالية الوضع القضائي والازدواجية التي يعاني منها بين قضاء شرعي وآخر يمارس وظيفة قضائية على أساس تنظيمات يصدرها مجلس الوزراء، لا يعترف القضاء ببعضها. على صلة بذلك المؤسسة الدينية وموقفها من بعض أهداف الرؤية، والقيود أو التحفظات التي ستضعها على التحول وأهدافه. كيف سيتم التعامل مع ذلك؟ هذا سؤال محوري يتعلق بالعلاقة بين منطق الدولة، ومنطق الدين أو المؤسسة الدينية. كانت حال هذه العلاقة شيئاً قبل الرؤية. والأرجح أنها ستكون شيئاً آخر بعد التحولات التي تتطلع إليها الرؤية. كيف سيتم التعامل مع هذا التحول؟ ثم هناك الطبقة التجارية بحلفائها التي تعودت معهم داخل الدولة وخارجها على الربح السريع، وليس على الاستثمار الصناعي طويل الأمد. كيف سيكون موقعها ودورها في مقابل القوى الأخرى في التحول المنشود؟ ثم ماذا عن الفساد والقوى التي تعتاش منه؟
في هذا الإطار يغيب عن الرؤية مبدأ استراتيجي يبدو أنه اقتصادي محض، وهو في الحقيقة مبدأ له تبعات وتداعيات اجتماعية وسياسية وقانونية لا تقل أهمية عن منطلقه الاقتصادي. أعني بذلك العمل كمصدر أول للثروة الحقيقية، وللأخلاق أيضاً. ولذلك غاب عن الرؤية هدف خلق قوة عمل محلية وطنية تحل في شكل تدرجي محل العمالة الأجنبية. هذا هدف استراتيجي، ومن دونه لا يمكن تحقيق الانتقال من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى اقتصاد يعتمد في شكل أساسي على قوة العمل والإنتاج الداخليين. من النتائج الكارثية لمرحلة النفط أنها هدمت على مدى أكثر من 70 سنة أخلاقيات العمل، وحرمت بالتالي المجتمع السعودي من قوة عمل كان يمتلكها قبل النفط. ومن ثم فتحت الباب على مصراعيه أمام جحافل عمالة أجنبية غالبيتها من الطبقة المتدنية في تعليمها ومهارات عملها. شاركت هذه العمالة السعوديين في استنزاف الاقتصاد الريعي من دون مقابل. هذا واضح من حجم التحويلات السنوية الضخمة لهذه العمالة على مدى ما يقارب نصف القرن. من حقها تماماً تحويل بعض أو كل مدخراتها إلى بلدانها. لكن السؤال: ما هي الإضافة التي حققها الاقتصاد السعودي في مقابل ذلك؟ لا شيء تقريباً. ومن ثم، لماذا غاب مستقبل العمالة الوطنية كمحور لقوة العمل والإنتاج، وكواحد من أسس التحول المنشود؟
هناك قضايا وأسئلة كثيرة تنطوي عليها الرؤية لا يتسع المجال لها هنا. وما ترمي إليه الملاحظات والأسئلة السابقة أن طموح الرؤية إلى إنهاء اعتماد السعودية على النفط، هدف ضخم، من حيث أنه يعني نقل المملكة إلى مرحلة مختلفة اجتماعياً واقتصادياً في شكل جذري عما كانت عليه منذ العام 1945. وهدف بهذا الحجم كيف يمكن تحقيقه على مستوى واحد بمعزل عن المستويات الأخرى. اللافت أن الرؤية لم تطلق اسماً معيناً على المرحلة التي تروم إلى أن ينتقل المجتمع السعودي إليها. هل هي مرحلة الاقتصاد الصناعي؟ اقتصاد الخدمات، أم مرحلة تضافر الصناعة والخدمات؟ قبل النفط كان المجتمع السعودي في مرحلة التبادل التجاري والرعي والحرف المحلية التقليدية. يسميها بعضهم مرحلة الاقتصاد الرعوي، وهي تسمية ليست دقيقة. في أربعينات القرن الماضي بدأ المجتمع ينتقل إلى مرحلة النفط حتى غرق فيها أخيراً. كان هناك انسجام بين البنيتين الاقتصادية والسياسية للمجتمع خلال المرحلتين السابقتين. هل يمكن أن يتحقق الانسجام نفسه في المرحلة الثالثة المتوقعة؟ وما هو اسم هذه المرحلة وهويتها؟ وهل لغياب هذا الاسم علاقة بغياب البعد السياسي والقانوني عن الرؤية؟ أخيراً، ما هي التحولات السياسية والقانونية التي كان ينبغي أن تعنى بها رؤية التحول؟ للحديث بقية.