بقلم : خالد الدخيل
لو تأملت قليلاً في ما يعصف بالمنطقة من موجات طائفية لا تتوقف، وحروب أهلية تستعر، وإرهاب، وتحالفات أقل ما يقال في بعضها بأنها مثيرة للشبهة، وتدخلات من داخلها وخارجها، لوجدت نفسك أمام سؤال غريب ومربك: لماذا الحرب على تنظيم الدولة (داعش) تحديداً؟ هذا السؤال فرض نفسه قبل الحرب الحالية لاستعادة مدينة الموصل العراقية. يعود الآن ليفرض نفسه بعد انطلاق هذه الحرب. يبدو السؤال غريباً بالفعل وليس في محله ولا في زمانه. «داعش» تنظيم إرهابي وطائفي متوحش يتهدد الجميع من دون استثناء، في المنطقة وخارج المنطقة. وبالتالي من مصلحة الجميع استئصاله والقضاء عليه أمس قبل اليوم. لا يختلف أحد، ولا يجب أن يختلف على ضرورة الوصول لهذه النتيجة. كل هذا صحيح، ولا ريب فيه. لكن مع ذلك سيأخذك التأمل في المشهد إلى السؤال نفسه مرة أخرى، وستجد أنه لا مفر من مواجهته، ولا حكمة في تفاديه.
عندما تتأمل المشهد بشيء من الهدوء البارد ستجد نفسك أمام مجموعة من الحقائق (وليس الآراء والظنون) مثيرة للدهشة. أولى هذه الحقائق أن الحرب على «داعش» تتم في السياق ذاته لما بات يعرف بالحرب على الإرهاب، وبالذهنية والمنهجية ذاتها. كلنا يعرف بأن هذه الحرب بدأت في تسعينات القرن الماضي ضد تنظيم «القاعدة»، ونتذكر بأنه عندما أطلقت الولايات المتحدة الأميركية هذه الحرب لم يكن هناك إلا تنظيم «القاعدة» فقط. ونتذكر أيضاً أن عمر هذه الحرب تجاوز الآن ربع قرن من الزمن. ما هي النتيجة بعد كل هذه السنين وما احتسبته في عدادها من خسائر، وتضحيات، ومغامرات، ومآسٍ؟ لا يزال تنظيم «القاعدة» معنا ليس في أفغانستان حيث كانت انطلاقته، بل تمدد إلى الجزيرة العربية، وشمال أفريقيا، والعراق، وسورية. ليس هذا فقط، بدلاً من تنظيم إرهابي واحد أفرزت الحرب على الإرهاب عشرات، إن لم يكن مئات من التنظيمات الإرهابية، وصل بعضها من القوة في الأتباع والعتاد أنه بات ينافس الدول. لا أحد يعرف على وجه التحديد العدد الحصري لهذه التنظيمات. لكن دونك، على سبيل المثال لا الحصر، «حزب الله» في لبنان، و«فيلق بدر»، و«كتائب الفضل بن عباس»، و«عصائب أهل الحق»، و«الحشد الشعب
ي» في العراق، ومثلها في سورية، و«أنصار الله» (الحوثيين) في اليمن. وهذه وغيرها إلى جانب «جبهة النصرة» في سورية، وتفريعات «القاعدة» في اليمن وشمال أفريقيا. ثم يأتي تنظيم «داعش» كإحدى ذُرى هذه الموجة التي تضرب المنطقة منذ البدايات الأولى في أفغانستان. ماذا يعني هذا؟ يعني شيئاً واحداً، وهو أن الحرب على الإرهاب فاشلة فشلاً ذريعاً جعل منها مصدر خطر على دول المنطقة، وربما العالم كله، بالقدر نفسه الذي يمثله الإرهاب. بدلاً من أن تقضي على الإرهاب أسهمت في تفاقم حجمه، ومساحته الجغرافية، وخطورته على الدول ومشروعيتها.
يعود فشل الحرب على الإرهاب (الحقيقة الثانية)، إلى أنها حرب عسكرية عارية. ظلت هكذا لأكثر من ربع قرن، من دون منطلق سياسي واضح، ومن دون هدف سياسي تلتقي حوله الأطراف المتضررة من الإرهاب، ومن دون معالجة وحلول سياسية للأزمات التي تفرخ هذه الظاهرة. وهذا أمر غريب أمام وعظ الغرب الذي لا يتوقف عن أهمية المؤسسات وأولوية الحلول السياسية، والديموقراطية، وحقوق الإنسان. لم تلتفت الولايات المتحدة وهي تقود الحرب على الإرهاب، إلى أن هذا الإرهاب يعتاش على الطائفية في المشرق العربي، وأن ركون أنظمة سياسية (في العراق وسورية) إلى أيديولوجيا طائفية مستترة، أو معلنة وملزمة (كما في حال إيران) تؤجج الحال الطائفية في المنطقة، ومن ثم الحروب التي يستعر أوارها. تتداخل في هذه الدول فكرة الدولة مع فكرة الطائفية، ما جعل اعتمادها على الميليشيات يتنافس مع الاعتماد على الجيش الوطني، وبالتالي خلق حالاً من التداخل بين إرهاب الميليشيات مع إرهاب الدولة بطريقة ليست مسبوقة.
الموقف الأميركي ملتبس أمام هذه الحال، أو هكذا يبدو. يريد محاربة الإرهاب، لكنه يؤسس لتحالف مع تنظيمات إرهابية لمحاربة تنظيمات إرهابية أخرى. هذا ما تفعله أميركا في العراق، تتحالف مع «الحشد الشعبي» (خليط من عناصر مقاتلة تنتمي في الأصل لتنظيمات شيعية عراقية) لمحاربة تنظيم «داعش» السني. بمثل هذه السياسة تكون واشنطن قد تموضعت في إطار الاصطفاف الطائفي للصراع السياسي في العراق مع طائفة ضد أخرى. في سورية لا تفعل واشنطن الشيء نفسه، لكنها في الوقت الذي تحارب فيه «داعش» بكل ضراوة، تلتزم الصمت والحياد أمام وحشية النظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين والميليشيات ضد المكون السنّي السوري، وهذا أمر مربك ومحير. لا يتوقف الرئيس أوباما عن نصيحة أهل المنطقة بضرورة التعايش بين مكوناتها، بدلاً من الاحتراب في ما بينها. وفي الوقت نفسه يشارك في هذا الاحتراب بإصرار واضح، لماذا؟ سُئل وزير الخارجية جون كيري: لماذا تلتزمون الصمت حيال دور «حزب الله» في سورية؟ فأجاب بأن هذا الحزب لا يستهدفنا
تنطوي إجابة كيري على أن إدارته ليست معنية بالطائفية تماماً، ولا بما تمثله من مخاطر على حلفائها وأصدقائها في المنطقة. وبمثل هذه الرؤية تفصل إدارة أوباما الإرهاب عن الطائفية، ومن ثم تفصل بالضرورة أمن أميركا عن أمن حلفائها وأصدقائها، وهذا هو التخبط الذي تعاني منه هذه الإدارة. أميركا ليست طائفية، ومرجعيتها الدستورية وتاريخها السياسي لا يسمح لها أن تكون كذلك، لكن عملياً هذا ما تفعله على أرض الواقع في المنطقة.
نأتي إلى الحقيقة الثالثة، وهي أن إدارة أوباما، وقبلها إدارة بوش، تتجاهل، وعن عمد، أن «داعش» نتيجة لما هو أكبر وأخطر. كانت ولادة هذا التنظيم في ظل الاحتلال الأميركي للعراق وما تسبب به من تدمير للدولة، وإعادة بنائها على أسس طائفية، ونفوذ إيراني يعزز ويدعم هذه الأسس. بعبارة أخرى، كما أن أميركا فشلت في الحرب على «القاعدة»، فقد أسهمت بشكل كبير في ولادة «داعش» كوريث للقاعدة، وكمرحلة إرهابية أخطر من «القاعدة». وهي أخطر ليس لأنها أدت إلى ولادة «داعش»، وإنما لأن أميركا عملياً شرعنت الطائفية في العراق وسورية، وتريد محاربة نتيجتها في «داعش»، و«داعش» حصراً. وترجمة ذلك أن أميركا بحربها على تنظيمات سنّية، بالتحالف مع تنظيمات شيعية، تكون في حرب على المكون السنّي في المنطقة، وهذا سيعمق مأساة الطائفية والإرهاب معاً، وستمتد آثاره إلى أميركا نفسها. ستدرك أميركا بأنها كما فشلت مع «القاعدة»، ستفشل مع «داعش»، حتى بعد هزيمته وتدميره. لماذا؟ لأن «داعش» نتيجة ومظهر للأزمة وليس سبباً لها. عندها ستواجه سؤالاً: لماذا الحرب على «داعش»، وليس الإرهاب؟!