بقلم : خالد الدخيل
الطبقة السياسية التي تحكم في العراق (ولا تحكم العراق) تستدعي مقارنة لا يمكن تفاديها مع النظام السابق الذي لم ترثه بقدر ما أنها حلّت محله برافعة خارجية. ترفض هذه الطبقة مقارنة مثل هذه لأنها ترى فيها إمكان مفاضلة تصر على تفاديها. لكنها مقارنة يستحيل تجاوزها الآن بعد أكثر من 13 سنة من سقوط النظام السابق، وما انتهت إليه. طبقة الحكم الجديدة هي أول من وضع معايير المقارنة مع صدام حسين. فعندما كانت في موقع المعارضة، كانت تنطلق من ضرورة إنهاء ديكتاتورية نظام صدام، والقضاء على الإنقسام الطائفي الذي تسبب به، وإعادة الديموقراطية إلى العراق، ثم توظيف ثروات العراق في التنمية بدلاً من توظيفها في حروب خارجية لا طائل من ورائها. وهذه معايير لو التزمت بها الطبقة الجديدة لجعلت ذكرى صدام ونظامه تقبع في ظلمة النسيان، ولرسمت خطاً بيانياً واضحاً بينها وبين ذلك النظام. لكنها تنكرت لكل هذه المعايير، وأكثر منها، بصلافة وغباء سياسيين تحسد عليهما. لم يفرض عليها الفشل، وإنما اختارت الفشل بدلاً من اختيارها للدولة مفهوماً ومشروعاً كمنطلق لبداية عراقية جديدة ومختلفة. المشهد العراقي الآن مكشوف أمام الجميع منذ عام 2003.
أول إنجازات الطبقة السياسية العراقية أنها ألغت الهوية العربية للعراق. إذ يؤكد الدستور الجديد (2005) في مادته الثانية على هوية العراق الإسلامية، ويتجاهل تماماً هويته العربية. هذا على رغم أن ما لا يقل عن 70 في المئة من العراقيين هم من العرب. هل لهذا الموقف علاقة بالعلاقة الاستتباعية للعراق بإيران بعد الاحتلال الأميركي؟ ينص الدستور في مادته الثالثة على أن العراق متعدد القوميات والمذاهب والأديان. والأرجح أن هذا النص وضع لتبرير إلغاء الهوية العربية للعراق. ولو تم الالتزام بمقتضيات التعددية لهذا النص قولاً وعملاً، وبمؤسسات وسياسات وتعاملات الدولة الجديدة لأصبح مبرراً مقبولاً. لكنه في الواقع نص مهمل تماماً، ولا قيمة له على أرض الواقع السياسي في العراق الجديد. مثله في ذلك مثل نص المادتين السابعة والتاسعة. تنص المادة السابعة مثلاً على حظر «كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التطهير الطائفي أو يمهد أو يحرض أو يمجد أو يروج له...». هذا في حين أن غالبية الطبقة السياسية الجديدة تتمثل بأحزاب دينية طائفية. ولذلك تتشكل التحالفات السياسية داخل الجسم السياسي العراقي على أساس المحاصصة والاصطفافات الطائفية. أما الفقرة (أ) من المادة التاسعة فتنص هكذا «تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها من دون تمييز أو إقصاء...». هل يعكس تكوين الجيش والأجهزة الأمنية العراقية التزماً بهذا النص؟ الفقرة (ب) من المادة نفسها تجيب على السؤال من حيث أنها تنص على أنه «يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة». وإذا تجاهلنا الميليشيات السنية باعتبارها ميليشيات غير شرعية وتكفيرية بحسب الدستور، فكيف يبدو هذا النص الدستوري الأخير أمام «فيلق بدر»، و «كتائب الفضل بن عباس»، و «عصائب أهل الحق»، و «حزب الله» العراقي، وغيرها كثير يحظى بالغطاء الرسمي العراقي؟ بل تم تشكيل ما يعرف منذ 2015 بـ «الحشد الشعبي»، وهو خليط من مقاتلي الميليشيات الشيعية، وتم اعتباره مكوناً رسمياً تحت قيادة رئيس الوزراء. وهذه مخالفة صارخة لنص وروح المادة السابقة، ما يشير إلى أن الدستور لا قيمة له على أرض الواقع. وهي مخالفة تنم عن عجز مكين عن تكوين جيش عراقي وطني، وأن الميليشيا الطائفية هي الآن الملجأ الحقيقي في عراق الطبقة السياسية الجديدة.
مأساة هذه الطبقة أنها وصلت الى الحكم ولم تكن مهيأة له، لا من حيث المهارة الإدارية، ولا الأخلاق السياسية. ارتهنت منذ يومها الأول بالحكم للطائفية. لم تحقق لبلدها أمناً، ولم تحفظ له استقلالاً، دع عنك أنها لم تجترح له نظاماً يحقق العدل والمساواة بين مكوناته بعد معاناة مريرة تحت حكم النظام السابق. فتحت العراق رسمياً أمام نفوذ إيراني للمرة الأولى منذ سقوط الدولة العباسية في القرن 7هـ/13 الميلادي. قادت العراق إلى حرب أهلية شرسة لم يعرفها هذا البلد من قبل. ولا تزال هذه الحرب مستمرة، والطبقة السياسية لا تملك أي مخرج منها. وصلت إلى الحكم على يد الاحتلال. أتيحت لها فرصة إعادة بناء الدولة من الصفر تحت مظلة أقوى دولة في التاريخ. وفشلت في مهمتها في شكل فاضح. تثير الدهشة في قيمها وطريقة تفكيرها وسلوكها في كل ما يتعلق في شأن العراق ومستقبله. فقيرة في خيالها السياسي، وفي حسها الوطني الذي يتلاشى في شكل لافت أمام انتمائها الطائفي. لحظة وصولها الى الحكم تبين بسرعة لافتة أنها محكومة بجبلة الثأر ليس من صدام حسين وحسب، بل من كل السنّة العراقيين. جعلت الانتماء الطائفي والإثني هو الأساس الأول للحكم، ومعيار المحاصصة وتقاسم السلطة في الداخل، والتحالف الإقليمي في الخارج.
طبقة الحكم في العراق الجديد طبقة سياسية رثة مقارنة بما كان عليه أيام صدام حسين. أيام هذا الأخير كان الحكم دموياً، لكن في زمنه، كما يقول العراقيون، لم تكن في العراق ميليشيات لأن الطائفية كانت إرثاً ولم تكن عملية سياسية حاكمة. كان العراق دولة مستقلة لم تخضع لأي نفوذ أجنبي. كان الأمن مستتباً، وكان الفساد يتدانى في حجمه وقدرته التدميرية بما انتهى إليه مع الطبقة الجديدة. لم تدرك هذه الطبقة أن صدام انتصر عليها. وفي هذا علامة على رثاثتها، وعلى مفارقة بحجم تاريخ العراق. خسر صدام كل معاركه مع الخارج. هُزم هزيمة قاسية ومهينة أمام الأميركيين في الكويت. ثم أطاح به الأميركيون وبنظامه بعد غزو الكويت بأكثر من عقد من الزمن. لكنه، وعلى العكس ممن حلوا مكانه، لم يخسر نفسه. وقد تجلى ذلك في لحظة إعدامه. اعتبر صدام أن هذه اللحظة معركته الأخيرة، والوحيدة التي يجب أن ينتصر فيها على خصومه. المفارقة الثانية أن هؤلاء الخصوم أو الطبقة الحاكمة الجديدة هم من قدموا له النصر على طبق من ذهب، كما قدم الأميركيون لهم العراق على طبق من فضة. كان مصمماً على ألا يمكّن خصومه من مشاعره، والتشفي منه في لحظة انكساره، كما تمكنوا من قصره ومن كرسي الحكم الذي كان يتربع عليه. تصرف بما يعكس قناعته بأن هؤلاء الخصوم أقل شأناً من أن يبدو خائفاً منهم، ومما قد يفعلونه به. قال يوماً أثناء محاكمته للقاضي: «لولا الأميركيين، لا أنت ولا أبوك تستطيع أن تأتي بي إلى هنا». لاحظ رمزية الأب في هذه الجملة. كان يصر على أن يبدو صلباً ومتماسكاً في أحلك لحظات حياته. اعترف بالهزيمة أمام الأميركيين، لكنه لم يعترف بهزيمة أمام خصومه. ولذلك لم يذعن لهم. اعتبر نفسه رئيس العراق، وتصرف وفقاً لهذا الاعتبار. لم يتلفظ بكلمة نابية. ولم تبدر منه إشارة طائفية أو إثنية على رغم أن خصومه اختاروا عمداً فجر عيد الأضحى ليكون يوم إعدامه. والأكثر اتساقاً مع ذلك أنه لم يبدُ عليه الخوف من مصير كان يعرف أنه آتِ. كانت لحظة إعدامه لحظة نموذجية للمواجهة الأخيرة بين طبقة سياسية أتت بها الأقدار، وديكتاتور متماسك. وعندما تخسر أمام الديكتاتور في مثل هذه اللحظة، فالأرجح أنك أكثر سوءاً من الديكتاتور. وليس أدل على ذلك من أن لحظة وصول الطبقة الجديدة إلى الحكم كانت اللحظة التي انفجرت عندها حروب أهلية لم تتوقف حتى الآن، وليس هناك مؤشر على أنها تقترب من ذلك. وفي هذا دلالة محزنة على فشل ورثاثة لا سابق لهما.
يقول ابن منظور: «رثث، الرث، والرثيث: الخلق (بفتح اللام والخاء) الخسيس البالي من كل شيء. تقول: ثوب رث، وحبل رث، ورجل رث الهيئة في لبسه. وأكثر ما يستعمل في ما يلبس، والجمع رثاث.... وفي خلقه (الرجل) رثاثة أي بذاذة. والرث، والرثة جميعاً: رديء المتاع». ثم يضيف بأن «الرثة (هي): خشارة الناس وضعفاؤهم، شبهوا بالمتاع الرديء. والرثة: السقط من متاع البيت من الخلقان». (لسان العرب، ج2، ص 151). كأن صاحب اللسان يصف هنا طبقة الحكم الجديدة في العراق من حيث أنها طبقة بالية رديئة، خالية من كل خصائص الحكمة، ومن مهارات الحكم، وذكاء السياسة. ارتهنت لرثاثتها، فارتهن العراق للميليشيات، وللحروب الأهلية والنفوذ الإيراني. لا تدرك هذه الطبقة أن ما تريده طهران هو أن يبقى العراق منقسماً ومثخناً وضعيفاً ليظل ساحة لنفوذها ولعمقها الاستراتيجي، وليس منافساً لها كما كان قبل الغزو الأميركي. هل في هذا تبرئة لصدام؟ أبداً. لكن فيه شهادة على أن من أتوا بعده أسوأ منه بكثير.