خالد الدخيل
لماذا يبدو الأمين العام لـ «حزب الله» اللبناني حسن نصرالله في حال غضب مكتوم يسيطر عليه، ويتخلله قلق حاد المزاج من تحالف عاصفة الحزم؟ العاصفة تحالف عربي يعمل على وضع حد لميليشيا تريد الاستيلاء على الدولة في منطقة بعيدة من الشام. يقع الحدث في جنوب الجزيرة العربية، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من لبنان. «حزب الله» ميليشيا أخرى في الشام. ما شأن الميليشيا بسياسات الدول وتحالفاتها؟ لماذا يبدو «حزب الله» قلقاً على مصير ميليشيا أخرى في منطقة نائية؟ ما يفرض السؤال أن الأمين العام لم يترك شيئاً يؤكد أنه في حال توتر إلا وجاء على ذكره. خلال أسبوعين ألقى خطابين متتاليين عن عاصفة الحزم تميز كل منهما بخليط من العداء للسعودية، والشتيمة لها، والكذب في سرد الأحداث وسياقاتها، ومسبباتها. من يمثل «حزب الله» بمثل هذا الموقف؟ هو لا يمثل الدولة اللبنانية، ولا غالبية الشعب اللبناني. هل يمكن أن يكون بمثل هذا الخطاب المنفلت، والموقف المنفعل لا يمثل إلا نفسه أمام تحالف دول عربية في منطقة يفترض أنها تقع خارج مصلحته كميليشيا محلية؟ هذا السؤال تحديداً يستدعي التدقيق بأمانة وصدق في ما يقوله الأمين العام كرجل دين يمتهن السياسة.
يقول نصرالله أنه يقف مع الشعب اليمني ضد السعودية. هذا حقه كفرد، لكن لماذا يبدو أنه وحزبه في حال قلق؟ هل يقف «نصرالله» حقاً مع الشعب اليمني أم مع ميليشيا الحوثي؟ تقول التجربة أن نصرالله ليس صادقاً في دعوته هنا. في العراق لم يقف مع الشعب العراقي. وفي سورية يقف مع النظام ضد الشعب. هل يمكن أن يكون موقفه مختلفاً في اليمن؟ هو يدعي أيضاً بمناسبة، ومن دون مناسبة، بأن حزبه هو حزب مقاومة. والحقيقة أن الحزب حارب إسرائيل. وحقق إنجازات مهمة في ذلك. لكن، هل هذا يجعل من الحزب فصيل مقاومة هدفه تحرير الإنسان والأرض؟ قتال العدو لا يعني بالضرورة أنه فعل مقاومة، فضلاً عن أن يعبر عن سياسة مقاومة. لماذا؟ لأن حزب المقاومة لا يرتهن لدولة أجنبية ضداً على مصلحة دولته، وأمته العربية التي ينتمي إليها، ويريد تحرير أرضها. ونصرالله يتحالف مع إيران (دولة أجنبية) في الهيمنة على مقدرات دولتين عربيتين. ثم إن حزب المقاومة لا يسمح لنفسه بأن يكون جزءاً من شبكة ميليشيات يقترب عدد قتلاها في العراق وسورية على مدى أكثر من عشر سنوات، من المليون. وقبل هذا وذاك، حزب المقاومة لا يجيز لنفسه التحالف مع أبشع نظام عربي في استبداده ودمويته، ويشاركه مذبحة شعب وصل عدد قتلاها حتى الآن إلى أكثر من ربع مليون سوري وسورية، وعدد مشرديها تجاوز الملايين العشرة. ما هي هذه المقاومة التي تقبل بأن يكون حجم الدم الذي في رقبتها أضعاف حجم الدم الذي في رقبة العدو؟ ومع ذلك، بل نتيجة له، لن تجد في كل خطابات نصرالله أي ذكر لقتلى سورية، ولاجئيها ومشرديها، ومآسيهم. لن تجد إلا تمجيداً بالرئيس الذي يشرف على ماكينة القتل، ويشاركه نصرالله الماكينة ذاتها. يريد نصرالله أن يقول للعرب أنه جزع مما يحدث لشعب اليمن، وهم العرب الأقحاح. والشعب اليمني كذلك. وكتب التاريخ في السعودية، وفي كل مكان تؤكد الشيء نفسه. لكن، ماذا عن الشعب السوري؟ أليس هو شعباً عربياً أيضاً له حق الحرية، وحق اختيار من يحكمه؟ لماذا لا يريد نصرالله أن يحكم سورية غير بشار الأسد؟ كان نصرالله يدعو مع النظام الإيراني إلى احترام حق الغالبية في العراق. أما في سورية فاختفى عندهم مصطلح الغالبية تماماً. أصبحوا يحاربون الغالبية بشعار «المقاومة» وسلاحها. وعندما تصطدم «المقاومة» بالغالبية تفقد صفتها، وتصبح شيئاً آخر.
هل معنى ذلك أن نصرالله يكذب عندما يدعي أن المقاومة هي الصفة الأنسب لحزبه، وأنها مهنته التي لا مهنة له غيرها؟ الاحتلال الأميركي للعراق ودور إيران (راعية الحزب) فيه فرضا علامة الاستفهام الكبيرة هذه. يا ترى لماذا يتحالف نصرالله مع قوى سياسية عراقية جاءت إلى الحكم على ظهر دبابة أميركية؟ كان ذلك في عام 2003، أي في ذروة حديث نصرالله حينذاك عما يسميه المشروع الأميركي. لماذا يتحالف مع طبقة سياسية رثة هي إحدى أدوات هذا المشروع كما يصفه؟ ما الذي يربط حسن نصرالله وحزبه بهذه الطبقة؟ هل هي المقاومة؟ أم حقيقة أن هذه الطبقة تنتمي إلى المذهب نفسه الذي ينتمي إليه نصرالله وحزبه المقاوم؟ في السياق نفسه يتحالف حسن نصرالله مع الحوثيين الذين ينتمون إلى فرقة زيدية (الجارودية) هي الأقرب إلى المذهب العقائدي الذي ينتمي إليه وحزبه المقاوم. الأكثر دلالة هنا أن الناظم الوحيد لشبكة هذه التحالفات التي تمتد من العراق إلى لبنان، مروراً بسورية، والذي يمولها ويمدها بالسلاح، هو إيران. هل هي مصادفة أن أطراف هذه الشبكة، والناظم لها جميعهم ينتمون إلى المذهب الديني نفسه، وإلى الهدف ذاته، وأنهم في حال حرب مع مذهب ديني آخر؟ يقول نصرالله أنه يحارب التكفيريين في المنطقة. لماذا يحاربهم من المنطلق ذاته، وبالأدوات المذهبية ذاتها؟ من هو التكفيري هنا، ومن هو الإرهابي؟
جاءت الثورة السورية لتجيب عن الاستفهام الذي فرضته الحال العراقية. شعار المقاومة هو كذلك. مجرد شعار، ليس أكثر. عندما بدأت هذه الثورة أصابت نصرالله حينذاك، ولا تزال حالاً من التوتر تشبه الحال التي يمر بها الآن بعد انطلاق عاصفة الحزم. أليس التوتر هنا امتداداً للتوتر الأول؟ آنذاك كذب نصرالله في الخطاب الأول له بعد الثورة عندما تساءل بلهجة لبنانية ساخرة «وينوي الشعب السوري تنأف حده»؟ مرت أربع سنوات على الثورة، قتل خلالها من هذا الشعب أكثر من ربع مليون، ولا يزال نصرالله يطرح السؤال على نفسه. صحيح أن حبل الكذب قصير، لكن مسلسله عند الأمين العام طويل جداً. يتذكر الجميع أن نصرالله تعهد يوماً بأن سلاح «المقاومة» لن يستخدم في الداخل اللبناني تحت أي ظرف. وكشفت أحداث 7 أيار (مايو) 2008، أنه كان يكذب. بعد حرب 2006 تعهد بأن الحزب لن يتدخل في أي صراع يحصل داخل أي دولة عربية، لأن مهمة الحزب محصورة في مقاومة العدو، ثم تبين أنه كان يكذب أيضاً بعدما أرسل مقاتليه للدفاع عن بشار الأسد ونظامه. هل لاحظت أن دافع نصرالله وحزبه في سورية هو الدافع نفسه في العراق؟ الرئيس السوري وعائلته الحاكمة ينتميان إلى المذهب العلوي، أي للطيف الشيعي الذي ينتمي إليه نصرالله وحزبه. وهنا تكتمل الحلقة الطائفية لـ «المقاومة»: جميع أطراف هذه الحلقة تنتمي في غالبيتها إلى مذهب في مقابل مذهب آخر، وتنتمي جميعها إلى طيف مذهبي واحد.
كيف يمكن أن تستقيم صفة المقاومة والحال كذلك؟ حزب المقاومة لا يختار حلفاءه، ويحدد مواقفه على أسس طائفية. ضع «مقاومة» إيران ونصرالله أمام المقاومة الفلسطينية في عز وهجها وصراعاتها. ماذا تجد؟ تجد أن المقاومة الفلسطينية لم تعرف المذهبية ولا الطائفية. كان فيها المسيحي، والدرزي، والسنّي، وغيرهم. ومع ذلك لم تنزلق إلى الطائفية. أما مقاومة إيران ونصرالله فهي منذ يومها الأول، في مبتدئها وفي منطلقها وأهدافها حركة طائفية تتلفع بشعار المقاومة. ومن ثم فهي لم تكن، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، لسبب بسيط، وهو أن المقاومة والطائفية لا تجتمعان في جسد واحد، أو فكر واحد، أو تنظيم واحد.
إذا كان نصرالله كذب ويكذب طوال مسيرته السياسية، فلماذا لا يكون يمارس الكذب نفسه في اليمن؟ هو زعيم ميليشيا، وقلقه من عاصفة الحزم نابع من أن هدفها المعلن نزع سلاح ميليشيا تشبهه في اليمن. وعندما يتحقق هذا سيكون سابقة يمكن البناء عليها، تعيد فرض مشروعية مطلب نزع سلاح كل ميليشيا إلى نصابها الحقيقي. وهذا يقض مضجع الأمين العام. فحزب الله هو ميليشيا الأولى التي أنشأتها إيران في العالم العربي، وكرست وجودها تمويلاً وتسليحاً. هي النموذج الأول، والأكثر نجاحاً الذي ترى إيران ضرورة استنساخه في كل بلد عربي تسمح ظروفه بذلك. من هنا، يخشى نصرالله أن يكون نزع سلاح ميليشيا الحوثي بداية لمسار سياسي في المنطقة، قد ينمو ويمتد ليصل إلى «حزب الله» في لبنان. وإذا حصل هذا فستكون العاصفة بداية انتكاسة مشروع الميليشيا المذهبية الذي ترعاه إيران ويعتاش منه نصرالله. للحديث بقية.