خالد الدخيل
إذا أردت أن تعرف وقع «عاصفة الحزم» في اليمن على من فوجئوا بها ويتخوفون منها، ومما يمكن أن تقود إليه، وما يمكن أن يتحقق بسببها في المنطقة فاستمع (لا تقرأ فقط) إلى ما قاله الأمين العام لـ «حزب الله» اللبناني، حسن نصرالله، مساء الجمعة الماضية. لا تنبع دلالة ما قاله من أهميته هو، وإنما مما يمثله كذراع إيرانية في المنطقة، وكمتحدث باسم النظام الإيراني في الشام. ثلاثة ملامح في كلمة نصرالله تعكس هذه الدلالة. الملمح الأول أن الكلمة جاءت سريعة، في اليوم الثاني من بدء العاصفة، وأن هذه العملية كانت الموضوع الوحيد لها. الملمح الثاني كان الحالة النفسية التي سيطرت على نصرالله وهو يلقي كلمته. منذ بدايتها كان يغالب بلسانه تجمع الزبد بين شفتيه، ما اضطره أكثر من مرة إلى تناول كأس الماء لـ «مقاومة وممانعة» جفاف في حلقه كان يفرض نفسه عليه. لم يحدث هذا من قبل في كل خطابات نصرالله، وهي خطابات كثيرة. أما الملمح الثالث، والأهم، فهو أن الكلمة كانت مرافعة طويلة ضد «عاصفة الحزم» وحتمية فشلها، ودفاعاً مستميتاً عن إيران، وعن براءتها. بدت إيران في كلمة الأمين العام جمعية خيرية، بل قل مكوناً فريداً من الملائكة يجوب المنطقة يحمل العسل والورد، والمن والسلوى، يوزعه على كل من هو في حاجة إليه. في المقابل تهجم نصرالله بأسلوب بذيء على رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، ومصر، والسودان، والمغرب، في إطار هجومه الحاد والمتوتر على السعودية وأمرائها، مقابل الدفاع عن براءة ونزاهة إيران.
في هذا السياق، تساءل مرات عدة، بتحدٍّ سافر، وجرأة يحسد عليها، عن دليل واحد على تدخل إيراني في كل المنطقة، خصوصاً في لبنان. فات الأمين العام، في لجّة حالة التوتر التي سيطرت عليه، أنه هو بدوره في لبنان، وفي سورية والعراق واليمن، وبمرافعته الأخيرة أهم الأدلة على هذا التدخل. هل يستطيع الأمين العام أن يثبت أن طهران ليست هي من طلب منه، أو أوحت إليه بكلمته هذه، وبتوقيتها، مستخدمة إياه كغطاء؟ وإذا كانت إيران لا تتدخل، فإن ما يحدث في اليمن ما كان ينبغي له أن يعنيها، وبالتالي ما كان ينبغي أن تنتاب نصرالله بسببه حالة توتر لم يتمكن من السيطرة عليها؟ لماذا أسرع بإلقاء كلمته قبل مرور حتى 48 ساعة على بدء العاصفة، دفاعاً عن إيران؟ ربما أدرك الأمين العام، وإن متأخراً، أنه بكلمته وبتوتره ودفاعه أثبت ما كان يحاول إنكاره منذ بداية الكلمة حتى نهايتها.
حقيقة الأمر أنه لم تكن هناك حاجة لكلمة من نصرالله لمعرفة الموقف الإيراني من عملية الحزم، وصدمتها من تدخل ائتلاف عربي إسلامي واسع لإعادة الشرعية في اليمن. لا بد أن إيران شعرت بأن عزلة الحوثيين محلياً وإقليمياً أمام التحالف هي عزلة لها وحصار لدورها على تخوم الجزيرة العربية. لطالما استفادت إيران من الانقسامات العربية، ووظفتها لتوسيع نفوذها. تسببت هذه الانقسامات، مضافاً إليها انهيار الدولة في العراق وسورية، في اختلال التوازنات الإقليمية لصالح إيران. لكن لم تنتبه القيادة الإيرانية، كما يبدو، الى أن ما حصل ويحصل للعالم العربي في أعقاب ثورات الربيع ليس متغيراً نهائياً، وإنما جزء من عملية تاريخية في حالة سيولة وحركة مستمرة لا يستطيع أحد التنبؤ بما سترسو عليه أخيراً. من هنا جاءت مفاجأتها بعملية «عاصفة الحزم». ومصدر المفاجأة هذا إقدام السعودية على قلب كل التوقعات بما يمكن أن تقوم به في اليمن تحديداً. كان الاعتقاد السائد أن صمت الرياض طوال أكثر من عام على التوسع العسكري الحوثي، وسيطرتهم على صنعاء، واعتقال الرئيس عبدربه منصور هادي، وأعضاء حكومته، وصولاً إلى محاولة استكمال انقلابهم بالزحف على عدن التي هرب إليها الرئيس وإعلانها عاصمة مؤقتة للدولة، كان تعبيراً عن أن خيارات السعودية باتت محدودة، إن لم تكن معدومة. كان المشهد يوحي بأن موضوع التوازنات في اليمن أصبح محسوماً لصالح الحوثيين، ومن خلفهم الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، وأن ما يحصل هناك امتداد لاختلالات إقليمية لم يعد من السهل ترميمها.
من هنا فإن إقدام السعودية على قيادة تحالف عربي إسلامي واسع لوقف الزحف الحوثي، وإعادة الشرعية إلى مكانها هو سابقة لم تحدث من قبل. وهو كذلك ليس فقط من زاوية حجم التحالف، وخطورة الدور الذي اضطلع به في اليمن، وتبعاً لذلك في المنطقة، بل أيضاً من زاوية حدوثه أصلاً، وإقدام السعودية على مسؤولية قيادته عسكرياً وسياسياً. ظن البعض أن هذا التطور خارج التوقعات. ولعل العنصر الذي فاجأ الجميع هو عودة السعودية إلى المعادلة السياسية المعروفة والصحيحة، وهي أن السياسة الخارجية للدولة تفقد فعاليتها وتأثيرها في الداخل قبل الخارج من دون قدرة عسكرية تتناسب مع حجمها، وحجم دورها ومصالحها، وتمكنها بالتالي من حماية هذه المصالح وهذا الدور، ومن فرض خياراتها في لحظات معينة. وهذا مع ملاحظة أن وجود القدرة العسكرية للدولة، مع غياب إرادة سياسية لتفعيلها وتوظيفها عند الحاجة، يلغي فعاليتها، ويجعل منها قدرة معطلة. لكن «عاصفة الحزم» كشفت أن صمت السعودية وتأخرها كان محسوباً، وأن إرادة القرار كانت تنتظر لحظتها.
لم يكن أمام السعودية ودول التحالف من خيار آخر يفوق في أهميته وإلحاحه خيار إعادة التوازن إلى المشهد السياسي في اليمن. لم يدرك كثيرون أنه لا يمكن للسعودية القبول بتكرار التجربة اللبنانية مع «حزب الله» على حدودها في الجزيرة العربية. تكرار هذه التجربة يعني شيئاً واحداً، وهو ترسخ النفوذ الإيراني في منطقة عربية أخرى تحت ظلال السلاح والعنف. والحوثيون، ومن ورائهم إيران، يريدون تكرار هذه التجربة تماماً. غلطة السعودية وبقية الدول العربية أنها سمحت باختلال توازن المشهد السياسي اللبناني لصالح «حزب الله» وإيران. و»عاصفة الحزم» تشير إلى أن السعودية ودول التحالف استوعبت الدرس اللبناني. من دون ترميم للتوازن بين القوى اليمنية، يستحيل أن يكون هناك حوار متوازن في اليمن. والسبيل الوحيد لتحقيق هذا التوازن هو نزع سلاح الحوثيين بالكامل، وتحولهم إلى حزب سياسي مثل بقية الأحزاب، وأن يصبح السلاح حقاً حصرياً للدولة كمؤسسة يتشارك فيها الجميع على أسس متساوية. وهذا على العكس تماماً مما تريده طهران. ما تريده الأخيرة هو سيطرة منطق الميليشيات، وتغييب الدولة كما فعلت وتفعل في العراق وسورية، وقبل ذلك في اليمن.
من ناحية ثانية، وفي سياق التوازن نفسه تمثل العملية العسكرية للتحالف في اليمن خطوة استباقية ذكية جداً من ناحية مهمة، وهي إغلاق الباب تماماً أمام إمكانية أن تتبنى تنظيمات إرهابية، مثل «القاعدة»، مهمة مواجهة الزحف الحوثي، وأن تجعل من نفسها بالتالي القوة التي تدافع عن مكونات الشعب اليمني في وجه تغوّل الحوثيين عسكرياً وسياسياً. هذا ما حدث في العراق، ثم في سورية نتيجة تخاذل الدول العربية وانقساماتها. تصور لو أن التحالف لم يتقدم لوقف الزحف الحوثي؟ ما الذي كان يمكن أن يحصل؟ الأرجح أن الساحة اليمنية ستكون عندها مفتوحة أمام ترسخ منطق الميليشيا، ودخول تنظيمات إرهابية مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» بذريعة الدفاع عن سنّة اليمن، وتنظيمات شيعية مثل «حزب الله» و»عصائب أهل الحق» بذريعة الدفاع عن الحوثيين، في تكرار مدمر لتجربة العراق وسورية، والدور الإيراني فيهما.
وحتى يتحقق الهدف الاستراتيجي لـ «عاصفة الحزم» لا مناص من تحقيق خمسة أهداف بالتزامن: الأول التدمير الكامل لمخازن أسلحة الحوثيين كوسيلة لنزع سلاح الجماعة. والعاصفة، بما تحظى به الآن من تأييد يمني وعربي وإسلامي ودولي، هي الفرصة الوحيدة المتاحة لتحقيق ذلك. التهاون أو التأخر في نزع سلاح الحوثيين سيجعل من هذه المهمة في المستقبل أمراً يقترب من أن يكون مستحيلاً من الناحيتين السياسية والعسكرية. الهدف الثاني إخراج الرئيس السابق وابنه من اليمن، وإحالة جميع حلفائه في الجيش والمؤسسة الأمنية إلى التقاعد، وإخراجهم من العملية السياسية. ما يفعله الرئيس السابق يرقى إلى مستوى الجريمة. فهو يغامر بأمن اليمن ومستقبله لمجرد طموحات شخصية، ويطعن بممارساته وتحالفاته المتقلبة مع السعودية ودول الخليج في الظهر، ويعرض استقرار اليمن للخطر والتدخلات الأجنبية. الهدف الثالث إبقاء الحظر الجوي فوق اليمن، ووضع حد نهائي للأسطول الجوي الإيراني الذي دشنته قبل أسابيع لإمداد الحوثيين بالسلاح والعتاد، في محاولة لإطالة أمد الحرب، وإنهاك قوى التحالف. والهدف الرابع جعل الموانئ اليمنية منطقة محظورة وتحت السيطرة البحرية لقوى التحالف وإخضاع كل السفن للتفتيش. أما الهدف الخامس، والأهم، فهو وضع برنامج سياسي من قبل الفرقاء اليمنيين يتسم بالشفافية، ويتسع للجميع بمن في ذلك الحوثيين. هذه أهداف ممكنة، وقد لا تتطلب حرباً برية. فهدف العاصفة ليس احتلال اليمن، وإنما إنهاء القدرة العسكرية للحوثيين، وإفساح المجال أمام الحل السياسي.
توقيت «عاصفة الحزم» مهم. فهو يأتي بعد صبر طويل على تجاوزات الحوثيين وعبثهم، ومحاولة إقناعهم بأن المخرج الوحيد لليمن هو مخرج سياسي توافقي، من دون لجوء الى السلاح. وهو جاء قبيل انعقاد القمة العربية في شرم الشيخ التي يتوقع أن تصادق على مقترح إنشاء قوة عربية مشتركة للدفاع عن المصالح العربية في هذه الظروف المضطربة. وهو مقترح من حيث المبدأ صحيح. لكن يجب الانتباه لئلا ينتهي هذا المقترح إلى ما انتهى إليه مقترح «إعلان دمشق» في أعقاب «عاصفة الصحراء» عام 1991. من ناحية ثانية يشير توقيت العاصفة إلى أن إعادة ترميم اختلال التوازنات في المنطقة قد بدأ في اليمن. هل هذا صحيح؟ هل ينبغي أن تتوقف إعادة الترميم عند حدود الجزيرة العربية؟ وهل يمكن أن تنجح إذا ما توقفت هناك؟ وقبل هذا وذاك ما هو البعد السياسي والفكري لعملية الترميم هذه؟