أكبر من مجرد سعودة لسوق الجوالات

أكبر من مجرد سعودة لسوق الجوالات

أكبر من مجرد سعودة لسوق الجوالات

 العرب اليوم -

أكبر من مجرد سعودة لسوق الجوالات

بقلم : جمال خاشقجي

في الأول من أيلول (سبتمبر) اكتملت مهلة سعودة قطاع الجوالات في السعودية، فبات على ملاك محلاتها سعودة كاملة أو إغلاق تام. توقعت أن يحتفي وزير العمل السعودي مفرح الحقباني بهذه المناسبة وبالنجاح الكبير، فيدعو الصحافة إلى جولة في إحدى أسواق الجوالات الكثيرة والمزدحمة (تسمى أيضاً سوق الاتصالات) ثم يعقد هناك مؤتمراً صحافياً وسط مئات الشبان السعوديين الذين باتت تمتلئ بهم جنبات السوق. وحبذا لو يختار محلاً مغلقاً يجري الاحتفال فيه، في إشارة رمزية إلى نية الدولة عدم التراجع عن هذه المهمة الوطنية، ويعلن من هناك أن المعركة المقبلة ستكون في قطاع تأجير السيارات، كما قالت تسريبات صحافية من أروقة الوزارة. وليته يتوسع فيضيف إليها قطع غيار السيارات ومعارض السيارات، وكلها قطاعات مناسبة جداً للشباب السعودي المحب للتجارة والسيارات والجوالات، ويسكت المثبطين الذين انقسموا بين قائل إن تجربة الجوالات ستفشل مثلما فشلت تجربة سعودة سوق الخضار، وآخر يقول، وقد رفع حاجبيه: «تبي عيالنا يشتغلون إما في سوق الخضار وإما الجوالات»!

لكنه لم يفعل، وليته يفعل ذلك بعد الحج، ويطلع الرأي العام السعودي على إحصاءات وتقرير مفصل بما تحقق، والثغرات التي اكتشفها فريق المتابعة، مثل محاولة بعض المتسترين والأجانب التحايل على القرار بسعودة وهمية، وظهور «تجار شنطة» يحومون في السوق، وامتناع بعض موزعي الجملة عن توريد بضاعة إلى الشباب حديثي عهد بالسوق، وارتفاع في الأسعار، وتضرر ملاك المجمعات التجارية بخلو بعض محالهم من المستأجرين، وغيرها من المشاكل المتوقعة في عمليات التحول من وضع خاطئ استقر سنوات، إلى وضع صحيح لا يزال هشاً.

قصة سعودة سوق الجوالات تختصر أزمة كبيرة في السوق وقطاع الأعمال في المملكة. اهتمت الصفحات الاقتصادية العالمية بقصص إضرابات عمال أجانب يعملون في قطاع المقاولات المتعثر، وبمسألة تعثر القطاع وتأخر دفع استحقاقات تلك الشركات. لكن المسألة أعمق من ذلك، فالسعودية دولة كبرى وليست مجرد اقتصاد خليجي صغير يعتمد إلى ما لا نهاية على عمالة وافدة، فتعداد سكانها بلغ 20 مليوناً، جلّهم من الشباب الذين يريدون ليس وظائف فقط، وإنما فرصاً للترقي والتمتع بحياة جيدة. ولكن من حولهم أكثر من 12 مليون أجنبي يعملون كل شيء، بل أصبحوا يمتلكون قطاع العمل بأسماء سعوديين، وبالتالي استحوذوا على فرص التوسع واكتساب الخبرة. لذلك نظر البعض إلى إعلان الحكومة مشروعاً لسعودة قطاع صغير هو سوق الجوالات وكأنه «أنبوب اختبار» لسعودة أوسع تشمل في شكل متدرج كل قطاعات الأعمال والتجارة. وهذا هو الشيء الصحيح الذي يجب أن يتم لبناء اقتصادي سعودي إنتاجي يستطيع أن يحقق هدف الدولة في التحرر من الاعتماد على النفط، كما دعت «رؤية 2030»، ولسبب آخر سياسي، هو الاستقرار بإرضاء الشعب وتوفير حياة كريمة له، والسر في ذلك يختصر في كلمة واحدة هي الوظائف.

تعقّد المسألة وصعوبتها، بعدما أدمن كبار الملاك والرأسماليون السعوديون على العمالة الأجنبية نحو أربعين عاماً، لا يعني التخلي عن هذا الهدف ولا تأجيله أكثر. ففشل هذا المسعى سيكون المهدد الأول لاستقرار البلاد، والتعقيدات ظهرت في سعودة سوق الجوالات البسيطة، فكيف في غيرها؟ لكنها معركة لا تحتمل غير خيار الانتصار.

أعتقد بأن السوق ستصحح نفسها بنفسها من دون تدخل وزارتي العمل والتجارة، ولكن بعد جولة في إحدى أسواق الاتصالات في شارع فلسطين في جدة، وحديث مع العاملين في القطاع، أدركت أن السوق في حاجة إلى ما يشبه «شيخ السوق» أو شيخ المهنة، وهي وظيفة قديمة كانت لها هيبة عندما كانت السوق سعودية وطبيعية، ثم اندثرت بعدما احتلت من عمالة وافدة وعابرة. لكن لا تزال الوظيفة قائمة في بعض المهن، مثل الذهب والمجوهرات، فليكن شيخ السوق هذه المرة موظفاً من وزارة العمل، من الضروري أن يكون باحثاً وظيفته مراقبة تحولات السوق، وما يطرأ من مشاكل أو مزايا أو مجرد تسجيل للتحولات التي تشهدها، على أن يذلل المشاكل بأن يكون الوسيط بين التجار والعاملين في شتى الجهات الحكومية، ويجمع الملاحظات ويحللها مع فريق للاستفادة منها في معركة سعودة أخرى.

مساء الخميس قبل الماضي قمت بجولتي الصحافية المشار إليها، قبيل أن أكتب مقالتي هذه. ما زالت السوق مزدحمة، عدد المتاجر المغلقة قليل، لكن رفوفاً كثيراً خاوية، وهو ما عزاه شاب سعودي قال إنه في السوق منذ أكثر من 10 أعوام، إلى امتناع تجار الجملة، وكثير منهم أجانب، عن التوريد لبعض الملاك الجدد. ويرى أن هذه المشكلة ستحل نفسها بنفسها، عندما يتعرف الطرفان على بعضهما أكثر (أو خروج الأجانب من سوق الجملة أيضاً)، ويعتقد بأنهم سيضطرون في النهاية إلى تنزيل بضاعتهم إلى السوق، لأنهم لا يستطيعون تخزينها طويلاً، فالجوالات سلعة قصيرة العمر، بسبب نزول طرازات جديدة منها باستمرار.

شاب آخر دلني على سوق أخرى لبيع وشراء الأجهزة المستعملة يكاد نصفها أن يكون مغلقاً. بالفعل وجدته كما يقول، ولكنني لاحظت كثرة الأجانب المتسكعين في جنباته. من الواضح أنهم ليسوا زبائن، إذ كانوا يقفون بين السيارات وأمام المحال. عدت إلى الشاب الخبير بالسوق، وهو ماجد المجرشي الذي يملك محله ويديره بنفسه، وأعتقد بأن هذا ما تسعى ويجب أن تسعى إليه وزارة العمل. قال لي إن أولئك المتسكعين «شريطية» يتلقون من يرغب في بيع جواله القديم، ثم يجمعون حصيلة ما يشترون ويبيعونها في أحد متاجر الهواتف المستعملة. وأضاف أنهم في السوق وبالطريقة نفسها، حتى قبل عملية السعودة، وإن قل عددهم. هؤلاء مخالفون لنظام العمل والإقامة ابتداء، وإبعادهم مهمة وزارة الداخلية قبل العمل والتجارة.

الصيانة لا تزال مشكلة. يعترف صاحب متجر طلب عدم ذكر اسمه بأنهم يسلمون الجولات التي تحتاج صيانة إلى عمالة وافدة تعمل في ورشات صغيرة في منازلها، لكن هناك شباب سعوديين بدأوا دخول سوق الصيانة مثل محمد فلمبان الذي ذهب بعيداً في خدماته حتى المنازل، إذ يقوم بزيارات للمنازل والمكاتب، فيتسلم الجوال ويصلحه ثم يعيده إلى صاحبه أو صاحبته. لكنه متخوف جداً من ثغرة الصيانة، فهو اختصاصي فيها وكان يعتمد على عمالة أجنبية ويجد صعوبة في إحلال سعوديين مكانها، فالسعودي المتقن للصيانة يفضل أن يعمل لمصلحته، فمكسبها جيد بين 50 و70 في المئة من كلفة قطع الغيار ويستطيع أن يجني من ثمانية آلاف إلى 20 ألف ريال شهرياً. وهذا أفضل من الوظيفة، يشكو فلمبان أيضاً من عدم وجود اختصاص إلكترونيات الاتصالات في الجامعات أو معاهد التدريب، باستثناء كلية الاتصالات والإلكترونيات في جدة.

من الرائج بين كثير من الكتاب السعوديين انتقاد مساعي الدولة لسعودة الوظائف الدنيا والوسطى، وإلحاحهم على سعودة الوظائف العليا، فيبرر بعضهم ذلك بقوله إن الوظائف العليا ذات الدخل المرتفع ستكون في قطاعات صناعية تصديرية، رغم أنني أشم رائحة «استعلائية» في طرحهم، وأرد دوماً بأن من يصعد إلى أعلى السلم لا بد من أن يبدأ من أسفله. وأجد في اعتراف فلمبان وغيره بضعف السعودة في مجال الصيانة دليلاً آخر على ضرورة بدء السلم من أوله، فكيف تستطيع المملكة أن تقيم صناعات تحويلية لسلع تستحق التصدير تنتج بسواعد سعودية، لتحررنا من الاعتماد على النفط بوصفه مصدراً أساسياً للناتج القومي، إذا لم يلفح السعودي بعد في مجال أبسط كالصيانة؟

الرأسمالي السعودي لن يستسلم لإجراءات الحكومة. لا يهمه هدف الدولة في السعودة، ولا هدف ذلك الاستراتيجي الذي يريد صناعات تحويلية تصديرية. إنه خلف الكسب وتوفير النفقات وإرضاء العملاء، لذلك سيبدع في حلول تخدمه ولن تخدم هدف السعودة، مثل جمع الهواتف المعطلة من العملاء، وشحنها إلى مركز صيانة في دولة خليجية غير معنية بتوطين الوظائف، فتصلح هناك ثم تشحن ثانية إلى المملكة. التصدي لذلك مهمة وزارتي العمل والتجارة، ومعهما هذه المرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لإقناع جيراننا بأهمية توطين الوظائف لديهم، أو على الأقل سد الثغرات عندهم.

خرجت من السوق متفائلاً بحذر، فالانتصار ليس مكتملاً بعد. لا يزال هناك قلائل من المتسترين والأجانب يعملون بسعودة وهمية، باعتراف عدد من العاملين في السوق الذين يريدون ألا تتراجع الوزارات المعنية كي يضمنوا بقاءهم واستمرارهم في السوق. ولعل الوجود المستمر لمكتب «شيخ السوق» الذي اقترحته، مع جولات تفتيش مستمرة، يطمئنهم، وانتقال المعركة فوراً إلى قطاعات أخرى سيرسل رسالة إلى الشباب السعودي بأن الحكومة لن تتراجع، ويسكت المثبطين الذين أثقلوا علينا بالحديث عن فشل تجارب السعودة السابقة.

عندما مررت بشارع خالد بن الوليد في جوار سوق الاتصالات التي زرتها، رأيته وقد انتثرت في جنباته عشرات معارض بيع الأجهزة الطبية التي من الواضح أنها حال تستر أخرى، تحتاج مشروعاً آخر للسعودة، وهو أيضاً كقطاع الاتصالات والسيارات، قطاع مناسب جداً للسعوديين، وفيه خير كثير يغنيهم، ويكون أرضية للتطلع إلى ما بعده.

arabstoday

GMT 04:45 2021 الإثنين ,01 آذار/ مارس

صواريخ إيران وقميص خاشقجي

GMT 05:03 2021 الأحد ,28 شباط / فبراير

تقرير خاشقجي: انطباعات جوفاء بلا قيمة

GMT 21:27 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

ماذا يعني حضور محمد بن سلمان قمة العشرين؟

GMT 07:27 2018 السبت ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

من مفكرة الأسبوع

GMT 07:07 2018 الجمعة ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

التوقعات في أزمة «خاشقجي»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أكبر من مجرد سعودة لسوق الجوالات أكبر من مجرد سعودة لسوق الجوالات



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab