أنا سعودي ولكن مختلف

أنا سعودي ولكن مختلف

أنا سعودي ولكن مختلف

 العرب اليوم -

أنا سعودي ولكن مختلف

بقلم - جمال خاشقجي

قبل أشهر، انطلقت حملة مقالات تدعو إلى اجتثاث تيار اتفق على تسميته «السرورية»، نعم إلى «اجتثاث»! كانت هذه الحملة الأخيرة في حملات سبقتها تدعو إلى اجتثاث تيارات أخرى، كل هذا نشر في صحفنا المحلية!

وقبل سنوات كانت هناك دعوات إلى اجتثاث الحداثة، بعد مقدمات وكتب ومقالات وخطب منبرية قالت إنها كفر أو مفضية إليه، ومثلها الليبرالية والعلمانية، وكل منهج لا يتفق مع منهج التيار المتشدد الذي ساد يوماً وتنمّر.

هنا الخصومة «في دائرة أهل السنّة»، وليست بين سنّة وشيعة، والتي أضحت الموضوع المفضل للداعين إلى التعايش، متجاهلين أن ثقافة الاجتثاث تجر بعضها بعضاً، ولا تقتصر على صراعات السنّة والشيعة، أو غيرهما من المذاهب، كما نتوقع مباشرة عندما نسمع مصطلح «التعايش المجتمعي»، وإنما ستمتد إلى كل الهويات.

كلنا نحمل أكثر من هوية، من دون هوية الوطن الجامع، ومع انعدام ثقافة التنوع، وتنمّر ثقافة الاجتثاث، سنتعصب لها ونمضي نجتث أو نقصي أو نحتقر كل من يختلف عنا ويحمل مثلنا واحدة من تلك الهويات الصغرى، (المذهب، العرق، المنطقة، المدينة والمحافظة)، بل حتى التوجه والاجتهاد السياسي.

لو استقر الأمر لمن دعا إلى اجتثاث هذا التيار وتصفية ذلك الاتجاه الذي يبغضه، ثم احتفل بالانتصار هو والجمع الذين يوافقونه ويحملون هوية أو أكثر تختلف عن هويته، ولكنهم اجتمعوا مصادفة على كراهية تلك التيارات الإسلامية، فسيكتشفون لاحقاً، بعدما قبلوا واستسهلوا مبدأ الاجتثاث والإقصاء، أنهم مختلفون أيضاً، ولا بد أن يجتث بعضهم بعضاً، فهذه النتيجة الحتمية للسماح لثقافة الاجتثاث والإقصاء.

الحل أن يدفع الإعلام، والمعلم وخطيب المسجد، ومن قبلهم جميعاً السياسي القائد، بثقافة التنوع و «حق الناس في الاختلاف»، ولي قصة مع هذه العبارة الرائعة «حق الناس في الاختلاف».

ففي يوم إثنين في ليلة رمضانية قبل سنوات، وتحديداً سنة 1429 (2009)، في عهد الراحل الملك عبدالله، كنت يومها رئيساً لتحرير «الوطن»، أتابع ليلتها بيان مجلس الوزراء، الصادر قبل قليل، استوقفتني عبارة ضُمنت في البيان في غير السياق المعتاد «أن المملكة تسعى دوماً إلى ترسيخ قيم الإسلام الأساسية، المتمثلة بالعدل والمساواة والتكافل والتسامح وحق الإنسان في الحياة الكريمة، وفي الحرية المسؤولة». حتى الآن لا جديد، فهو مضمون متفق مع ما عهدناه في السياسة السعودية، ولكن الجملة اللاحقة كانت جديدة تماماً: «وحق الناس في الاختلاف في حدود ما أباحته الشريعة، وأنه لا ضرر ولا ضرار». إنها لغة جديدة ومضمون مختلف، ما كنت أتوقع سماعه من عالم أو خطيب مسجد حتى لو أضاف إليه الجملة التحرزية «في حدود ما أباحته الشريعة»، فكيف وهي تأتي من أعلى سلطة في البلاد؟! بالتأكيد ما كان خادم الحرمين يعتمد تصريحاً كهذا إلا لينقله إلينا، نناقشه، ونتحاور حوله.

كان الراحل في تلك الفترة يقود عملية إصلاح، يعلم بثقل الجمود السابق، وتحسس القوى المحافظة من الجديد، ولكنه كان رحمه الله، كمعلم يخط على لوحة أمام تلاميذ بعض أفكاره الإصلاحية، مثل استخدامه مصطلح «تمكين المرأة»، ليمهد للمجتمع القبول بها شريكة في العمل، ودعوته إلى «شد الحزام» للتعبير عن مرحلة اقتصادية ليتها طالت، وأن «المملكة جزء من العالم ولا تنسلخ عنه»، لنتفكر في ضرر الانغلاق، ومثلها قوله رحمه الله «لا نستطيع أن نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير»، وجملته الشهيرة التي قالها في حفلة أهالي القصيم: «لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة ولا مع متطلبات الوحدة الوطنية أن يقوم البعض، بجهل أو بسوء نية، بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان.. فهذا علماني. وهذا ليبرالي. وهذا منافق. وهذا إسلامي متطرف».

عبارات ينثرها على اللوح كي يبني عليها المثقف ويناقشها ويعرضها على العامة، حتى تنساب بسلام إلى المجتمع بكل طبقاته.

بالفهم نفسه، تلقيت عبارة «حق الناس في الاختلاف»، فجعلتها «مانشيت» الصحيفة في اليوم التالي، تحدثت بعدها مع وزير الإعلام وقتذاك الأستاذ إياد مدني، وجرنا الحديث إلى بيان مجلس الوزراء، فعرفت منه أن الجملة ليست عابرة، بل مقصودة.

بعد أيام قليلة من البيان، كان موعد اليوم الوطني، وجرت عادة الصحف على إصدار ملاحق خاصة بذلك اليوم العظيم، كثير منها يقتصر على استعراض الإنجازات والتاريخ معاً، ولكن كنت أختار فكرة واحدة أبني عليها كل الملحق، فوجدت في عبارة «حق الناس في الاختلاف» ضالتي، وبسرعة تشاورت مع الزملاء، واتفقنا على شعار «أنا سعودي ولكن مختلف»، ليكون عنوان ملحقنا لليوم الوطني وشعاره. طلبت من كل كتاب الصحيفة، التي اشتهرت وقتها بقوة صفحات الرأي فيها، والذين كانوا يمثلون كل أطياف المجتمع، كتابة مقالة يعبرون فيها عن هويتهم الصغرى، وكيف تصب في نسيج الهوية الكبرى لتصنعه وتكمل صورته، من دون تعارض ولا تصادم. بدت المهمة سهلة وأنا أراجع ما يصل إلي من مقالات، فكرة التعددية، والتنوع ضمن الهوية السعودية الكبرى، كانت واضحة في ذهن كل من كتب: المتدين، ومن يصنف بالليبرالي، وأبناء شتى المناطق والمذاهب، لم يجد أي منهم غضاضة في الفخر بهويته الصغرى، أو توجهه الفكري والسياسي، مع إيمانه بالوطن السعودي وانتمائه إليه. شارك معنا حتى «السعودي» الذي لا يحمل هوية سعودية رسمية، ولكنه سعودي الهوية والهوى، إذ نشأ وتعلم فيها، وساهم في ثقافتها وأدبها وفكرها، لم يستطع أن يرى نفسه إلا سعودياً، وأقصد الزميل والصديق محمود تراوري، الذي لم نعرف أنه ليس سعودياً إلا يوم أرسل مقالته، لم يتردد هو في كتابتها ولم نتردد نحن في نشرها.

ظهر الملحق، في صفحته الأولى «مانشيت» عريض: «أنا سعودي... ولكن مختلف»، أخذت في تلقي اتصالات الثناء، من أمراء ووزراء ومثقفين، الجميع أعجبتهم الفكرة، إذ جاءت في وقت حراك، واكتشاف للهويات والاتجاهات، وأيضاً مفهوم «الوطن» فكان مريحاً لهم أنه على رغم تعددنا إلا أننا جميعاً «واحد».

اعتقدت أنني أحسنت صنعاً، ودفعت بفكرة الترويج لثقافة التنوع في المجتمع، وحملت فكر الراحل، عندما عمد وزير إعلامه إلى أن يسطر في بيان أعلى سلطة تنفيذية في البلاد جملة: إن المملكة تحفظ «حق الناس في الاختلاف».

بعد أيام، وقعت الواقعة، جاءتني من لجنة الشكاوى الإعلامية في وزارة الثقافة والإعلام، دعوى مرفوعة من هيئة الادعاء والتحقيق، تتهم الصحيفة ورئيس تحريرها وكل من شارك في الكتابة بالملحق أنهم بما فعلوا وكتبوا ونشروا إنما يهددون الوحدة الوطنية ولحمة الوطن! هل هم جادون؟ سألت، كانت شكوى رسمية، اضطررنا بعدها إلى سلسلة مكاتبات ومرافعات، أتمنى لو تنشر يوماً، نحاول أن نؤكد فيها أن ما فعلناه يصب تماماً في إثراء الوحدة الوطنية لا تفتيتها.

تركت «الوطن» ونحن على وشك أن نخسر القضية، إذ إن اللجنة القضائية مالت إلى رأي هيئة الادعاء والتحقيق.

الشاهد في القصة السابقة، أن بيننا مسؤولين، وربما مثقفين وعلماء دين، لا يزالون يرون أن التنوع غير صحي، وأن المجتمع السليم يجب أن يكون صورة متطابقة في الرأي والمعتقد، وهي نظرية فشلت حتى في أكثر الدول الشمولية عتياً، وما نحن بدولة شمولية.

المهمة لا تزال صعبة، وقبل أن نطالب الكاتب والإعلام والتربوي بنشر هذه الثقافة، يجب أن نؤمن بها، نحميها بنظام، لا نحتفل بها في شتى المناسبات، ثم نفتك بها عندما تعبّر عن نفسها، والأهم ألا يدعو من يزعم أنه مثقف إلى «اجتثاث» الآخر الذي يختلف معه.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنا سعودي ولكن مختلف أنا سعودي ولكن مختلف



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 16:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية
 العرب اليوم - نتنياهو يرد على قرار المحكمة الجنائية الدولية

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab